آلاف يتظاهرون في تل أبيب رفضاً لقانون الدولة القومية.(أرشيف)
آلاف يتظاهرون في تل أبيب رفضاً لقانون الدولة القومية.(أرشيف)
الأحد 5 أغسطس 2018 / 20:42

حدثان وتداعيات بعيدة المدى...!

أغلب المنظمات اليهودية في أمريكا يتبنى قناعات ليبرالية، ويدرك قادتها أن شعبوية اليمين القومي ـ الديني في إسرائيل، وميوله العنصرية، تُسهم في تآكل صورة إسرائيل في الولايات المتحدة، والغرب عموماً، وتنتقص من قدرتهم على التماهي معها

وقع في الأيام القليلة الماضية حدثان من المتوقّع أن تكون لكليهما تداعيات بعيدة المدى، بالمعنى السياسي والاجتماعي، في إسرائيل، وكلاهما وثيق الصلة بقانون القومية. وقد تمثّل الأوّل في شكوى تقدّمت بها لجنة المتابعة العليا إلى الأمم المتحدة للتحقيق في انتهاك القانون الجديد لحقوق المواطنة. اللجنة المعنية إطار للقائمة المشتركة التي تضم نواباً فلسطينيين في الكنيست. أما الثاني فتمثّل في مظاهرة احتجاج بادر إلى تنظيمها ممثلو الطائفة الدرزية، بالاشتراك مع يهود إسرائيليين من معارضي قانون القومية.

يكتسب الحدث الأوّل أهميته من حقيقة أنه ينقل الصراع والسجال الداخليين بشأن قانون القومية الجديد، وما انطوى عليه من تمييز ضد غير اليهود من مواطني الدولة الإسرائيلية، إلى المحافل الدولية. وبصرف النظر عمّا يمكن أن ينجم عن تحقيق لجان الأمم المتحدة ذات الصلة في أمر كهذا، إلا أن في مجرد قبوله من جانب المنظمة الدولية ما يعني تسليط ضوء ساطع، في أعلى هيئة دولية، في العالم، على شأن داخلي في إسرائيل يتعلّق بالمواطنة والمساواة وهوية الدولة.

والواقع أن الحدث الثاني، أي مظاهرة الدروز، يوم أمس السبت، في تل أبيب، يمنح الحدث الأوّل ثقلاً إضافياً. للطائفة الدرزية خصوصية في المجتمع والسياسة الإسرائيليين، ففي معرض تفتيت هوية مَنْ تبقى من العرب الفلسطينيين بعد قيام الدولة، جرى التعامل مع العرب الفلسطينيين من الطائفة الدرزية كجماعة قومية، وبهذا المعنى فإن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي يُعامل فيها الدروز كطائفة وقومية في آن. وقد فرضت عليهم قوانين الخدمة الإلزامية، ونالوا امتيازات معيّنة.

ولكن قانون القومية الجديد، الذي يكرّس أولوية اليهود، ويستبعد عامداً كلمة المساواة في المواطنة، ويقصي عملياً اللغة العربية من الفضاء العام، كان بمثابة الصدمة التي بددت الكثير من الأوهام. وقد كان هذا صادماً للدروز على نحو خاص، فهم بنص القانون الجديد ليسوا أكثر من مواطنين من الدرجة الثانية، بعدما توهموا في وقت ما أن في وسعهم أن يكونوا متساويين في هوية إسرائيلية تتسع لغير اليهود.

ولعل في الحدثين الأوّل والثاني ما يعيد التذكير بسجالات، ومرافعات قانونية، وسياسية، وأيديولوجية، وُلدت مع ولادة الدولة الإسرائيلية نفسها، ولم تستقر بعد على نتائج واضحة، ومنها: هل ثمة هويّة إسرائيلية، وهل يمكن لغير اليهودي أن يكون إسرائيلياً؟ وما معنى أن تكون إسرائيل دولة يهودية وديمقراطية في آن؟

فاليهودية، كما الديمقراطية، في النسق السياسي الإسرائيلي، كلمات إشكالية تماماً. فقبل سبعين عاماً نشأت في الكنيست لجنة خاصة لتعريف مَنْ وما هو اليهودي، ولا توجد حتى الآن إجابة تحظى بالإجماع. وينبغي أن نذكر، هنا، أن بن غوريون أرسل بعد قيام الدولة إلى خمسين من اليهود البارزين في الثقافة والعلوم في مناطق مختلفة من العالم، يطلب منهم الإسهام في تعريف مَنْ هو اليهودي، وقد تعددت إجابات هؤلاء، وهي الإجابات نفسها التي يتم تداولها والاختلاف بشأنها، حتى يوم الناس هذا.

وفي السياق نفسه تبدو كلمة الديمقراطية إشكالية، أيضاً، فثمة أنظمة حكم ديمقراطية مختلفة، وإن كانت بينها قواسم مشتركة. وبقدر ما يتعلّق الأمر بإسرائيل فإن التعريفات المحتملة لنظام الحكم الديمقراطي تصطدم بأسئلة المواطنة، والمساواة، والموقف من الأقليات الأصلية، التي سبق وجودها في بلادها وجود الدولة نفسها. وقد استعاض الإسرائيليون عن وجود الدستور، يُنظّم علاقات كهذه، بسلسلة مما يدعى بالقوانين الأساسية، التي كان آخرها قانون القومية الجديد.

ويمكن القول بأثر رجعي إن القانون الجديد جاء للحد من صلاحيات المحكمة العليا، التي استندت في أحكامها إلى تأويل قوانين سبقت، وقد رأى فيها معسكر اليمين القومي ـ الديني ترجيحاً لدلالة الديمقراطية على حساب دلالة اليهودية في هوية الدولة.

وعلى خلفية كل ما تقدّم ندرك أن الحدثين الأوّل والثاني يعيدان طرح الأسئلة التي لم يعثر لها الإسرائيليون، في تجربتهم الدولانية، على جواب واضح بعد، والتي يحاول معسكر اليمين القومي ـ الديني حسمها، وإغلاق باب النقاش بشأنها.

ولنحتفظ في الذهن بحقيقة أن الاعتراض على قانون القومية الجديد يتجاوز الفلسطينيين داخل حدود الدولة الإسرائيلية، وحدود فلسطين الانتدابية نفسها، فهو يتصل بهوية الدولة. لذا، لم يكن من قبيل المصادفة أن يشارك في مظاهرة يوم أمس، السبت، في تل أبيب، التي ضمّت قرابة تسعين ألفاً من المتظاهرين، قضاة، ورئيس سابق للأركان، ورؤساء أجهزة أمنية، ورئيس بلدية تل أبيب.

وفي السياق نفسه، لم يكن من قبيل المصادفة أن تُعبّر كبرى المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة عن امتعاضها من قانون القومية. فأغلب تلك المنظمات يتبنى قناعات ليبرالية، ويدرك قادتها أن شعبوية اليمين القومي ـ الديني في إسرائيل، وميوله العنصرية، تُسهم في تآكل صورة إسرائيل في الولايات المتحدة، والغرب عموماً، وتنتقص من قدرتهم على التماهي معها، والدفاع عن مصالحها.

وبهذا المعنى، أيضاً، تتجلى الدلالة العميقة، وبعيدة المدى، لشكوى لجنة المتابعة إلى الأمم المتحدة، ومظاهرة الدروز ويهود إسرائيليين في تل أبيب. وفي قادم الأيام الكثير من تداعيات قريبة وبعيدة المدى للشكوى والمظاهرة على حد سواء.