روبيرتو بينيني في فيلم "قهوة وسجائر" 2003.(أرشيف)
روبيرتو بينيني في فيلم "قهوة وسجائر" 2003.(أرشيف)
الأربعاء 8 أغسطس 2018 / 20:56

لقاء غريب

نحن الآن أمام أعمق لمسات الكوميديا عند جارموش، وهي سوء الفهم، بسبب استحالة التواصل. لا بد أن اللغة هي السبب

يفتتح المخرج جيم جارموش فيلمه "قهوة وسجائر" 2003، بلقاء بين روبيرتو بينيني وبين ستيفن. المكان عبارة عن حائط قديم، ساقط عنه الطلاء في مواضع متفرقة، وعليه كتابات من نوعية "للذكرى الخالدة"، التي تُحْفر أحياناً على جذوع الأشجار. أمام الحائط، وبوضعية غير مريحة، هناك منضدة مربعة، سطحها رقعة شطرنج، ربما رقعة الشطرنج، بانتظام الأبيض والأسود فيها، مُناسِبَة لفيلم "قهوة وسجائر"، القائم على لونين، وهما الأبيض والأسود. مُناسَبَات من هذا النوع تكون قائمة على اختيار جمالي أكثر منه عقلي أو منطقي. في الحائط فتحة باب كبير إلا أن الباب غير موجود، وفتحة الباب لا نرى فيها عمقاً، بل نرى سواد حائط آخر على بعد مترين، وهذا قد يزيد من عدم الارتياح في الجلوس على منضدة روبيرتو، بوضعها الغريب بجوار فتحة الباب.

روبيرتو أمامه على المنضدة الصغيرة، خمسة فناجين قهوة، نصف منتهية، نصف مُنْتَكَة من أفواه لا نعرفها، وملاعق، ومنفضة سجائر، ومُبيض قهوة. يرفع روبيرتو فنجان القهوة، وترتعش يده. يأتي ستيفن فجأة من داخل المكان، وليس من فتحة الباب. يُرحِّب روبيرتو بستيفن قائلاً: ستيف. يرد ستيفن مصححاً خطأ روبيرتو: ستيفن. نحن الآن أمام أعمق لمسات الكوميديا عند جارموش، وهي سوء الفهم، بسبب استحالة التواصل. لا بد أن اللغة هي السبب، اللغة تسمح بنصف تواصل تماماً مثل فناجين القهوة نصف المنتهية. اللقاء الغريب بين روبيرتو وستيفن، يفتقر حتى إلى معرفة الاسم الصحيح، فكيف سيكون الحديث الدائر في اللقاء؟

يقول روبيرتو لستيفن: أنا متحمس جداً، فيرد ستيفن بأنه هو أيضاً متحمس. يقول روبيرتو، وهو يُقدم فنجان القهوة لستيفن: كلانا متحمسان. فناجين القهوة نصف المنتهية، ليستْ لشخص بعينه، وكأنها دعوة عامة، لمن يجلس على المنضدة، ويُكمل فنجان قهوة، لم يكن له في الأساس. هذا عدوان ساخر من جارموش على أبسط ذاتية يتمتع بها الإنسان الحديث، وهي أن يأتي فنجان القهوة على شرفه، ومن أجله فقط، أو ربما كان جارموش يقصد الأخوية الكونية التي تتمتع بها شخصيات دوستويفسكي، المتواضعة بأريحية مُهَانة أمام غرور وعجرفة الإنسان الغربي، الرافض لإكمال فنجان قهوة، لم يكن له في الأساس. يسأل ستيفن: ماذا تشرب؟ يرد روبيرتو: قهوة، أنا أحبها كثيراً. ماذا عنك؟ يرد ستيفن: أنا أحبها. بدهشة يقول روبيرتو: أنت تحبها أيضاً. يفرح روبيرتو بتصريح ستيفن، ويمسك كتفه ويهزه بحماسة، ويقول: ستيف. يصحح ستيفن خطأ روبيرتو: ستيفن.

لا يعتبر ستيفن تكرار الخطأ في اسمه من قِبَل روبيرتو، إهانةً، لأن روبيرتو لا يقصد الإهانة، فهو متحمس فقط، بينما ستيفن يكتفي بتصحيح اسمه دون التفكير في أبعد من ذلك، لكن مع التكرار يُخيم على الكوميديا بظل العبثية الثقيل، ولهذا يبقى جارموش من أكثر المخرجين تعقيداً في تقديم الكوميديا.

ستيفن يرى أن القهوة والسجائر، مزيج رائع، وروبيرتو يرى أن الإفراط في شرب القهوة، صحي، مع أن ملامح وجه روبيرتو تشي بالنفور قليلاً من رشفات القهوة المستمرة. ستيفن يشرب القهوة قبل النوم مباشرةً، وهذا يجعل الأحلام تمر بسرعة على جانبي وجهه، كأنّه يركب سيارة، وحين يسأل أحدهم، بماذا حلمت؟ يرد ستيفن: ليس لدي وقت لإخباركم بهذا. هذا منطقي داخل العبث ذاته، فالأحلام كانت سريعة. ألا يكفي مَنْ يسأل، معرفة أن الأحلام كانت سريعة جداً؟

على ستيفن أن يُغادر بعد قليل من الوقت، فلديه موعد مع طبيب الأسنان، لكنه لا يحب الذهاب لطبيب الأسنان. يسأل روبيرتو: ألن تذهب؟ يرد ستيفن: يجب أن أذهب، لكنني لا أريد ذلك. يفكر روبيرتو، ثم يقول بحماس: ستيف أنا فاضي. يسأل ستيفن: هل تريد الذهاب بدلاً عني؟ يرد روبيرتو، وهو يضع يده على كتف ستيفن: شكراً جزيلاً. يتأكد ستيفن من رغبة روبيرتو، فيؤكد له روبيرتو بأنه سيذهب للطبيب بدلاً عنه. يعطي ستيفن عنوان الطبيب لروبيرتو. ينظر روبيرتو باهتمام للعنوان، ويقول: ستيفن شكراً جزيلاً. لم يُخطئ روبيرتو هذه المرة في اسم ستيفن، وكأنّ جارموش أراد هنا كسر رتابة التكرار، والسماح لنا باستراحة مؤقتة في منطق الصواب الخطأ، المعروف، والعقلاني، حتى يخدعنا مرةً ثانية وثالثة.
    
يقول روبيرتو لنفسه، وهو يفرك يديه من فرط الحماس والرضى، وعلى مسمع من ستيفن الجالس أمامه: موعد مع طبيب الأسنان، هذا رائع. يصمت روبيرتو قليلاً ويقول، وهو ينظر إلى عنوان طبيب الأسنان: يجب أن أذهب. أنا آسف يا ستيف. يرد ستيفن مُصححاً: ستيفن. يشكر روبيرتو مرةً أخرى ستيفن، ويُغادر لطبيب الأسنان. ينصحه ستيفن بنصف تشجيع: لا تتأخر.