الروائي البريطاني المولود في ترينيداد ف. س. نايبول.(أرشيف)
الروائي البريطاني المولود في ترينيداد ف. س. نايبول.(أرشيف)
الأحد 12 أغسطس 2018 / 19:40

نايبول وعالم الثنائيات..!!

كان سبّاقاً في رصد التحوّلات الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية التي أنجبت ظاهرة الإسلام السياسي، في بلدان مختلفة، بعد الثورة الإيرانية، والتحذير مما تنطوي عليه من مخاطر

 في وقت ما، كان في التعبير عن الإعجاب بنايبول، الكاتب البريطاني، الحائز على نوبل للآداب، ما يشبه ارتكاب معصية صغيرة، في الأوساط الأدبية الغربية ذات الميول اليسارية، والليبرالية عموماً. فقد تصادف صعود نجم الكاتب المهاجر من أصول هندية في بريطانيا مع غروب شمس الإمبراطورية البريطانية من ناحية، وصعود حركة التحرر القومي، في المستعمرات، من ناحية ثانية، ولكنه تبنى، خلافاً لأبناء جيله، نظرة مُحافظة، بل وتجلت في كتاباته بعض ملامح المركزية الأوروبية، أيضاً.

فالمهاجر الذي يكتب بلغة المُستعمِر، ويعيش في بلاده، لم ينخرط في قضايا الكولونيالية من باب نقدها، والتحزّب لضحاياها، كما فعل زملاؤه ومجايلوه، كان سلمان رشدي أبرزهم، بل اتسمت نظرته إلى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، بقدر من الحيرة والالتباس، ولم يأخذ مفاهيم سائدة كالحرية، والاستقلال، بلا تحفظات وشكوك تطال الشرط الإنساني نفسه. فلا وجود في عالم نايبول لثنائيات ولونين اثنين، فقط، هما الأبيض والأسود، بل ثمة الكثير من المناطق الرمادية والملتبسة والظلال.

لذلك، لم يصعب على نقّاده، خاصة بعد فوزه بنوبل للآداب في العام 2001، تحويل سيرته الشخصية والأدبية إلى وسيلة إيضاح لمعنى وجود الأبيض تحت قناع الأسود، حسب معادلة فرانتز فانون الشهيرة، ومعناها: تذويت أبناء المستعمرات السابقة، وضحايا الكولونيالية لتحيّزات المركزية الأوروبية، وتبني نظرتها العنصرية إزاء غير الأوروبيين.

ولكن في النظر، بأثر رجعي، من شرفة العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين على ما احتدم من صراع في مناطق مختلفة من العالم في حقلي الأدب والسياسة، في ستينيات القرن الماضي، والنهايات المأساوية لبعض التجارب الاستقلالية، والحروب الأهلية، في العالم الثالث، ما يُبرر إعادة النظر في تحفظات نايبول، والاعتراف بحقيقة أن الشرط الإنساني ينطوي على تعقيدات تتجاوز ثنائية الأبيض والأسود.

ولعل في هذا، بالذات، ما جذب كاتب هذه السطور إلى عالم نايبول، على الرغم من اختلاف القناعات الأيديولوجية، والتحيّزات السياسية. لم يكتف نايبول بكتابة الروايات، بل كرّس جانباً كبيراً من وقته، ونشاطه الإبداعي، للسفر والتجوال في مناطق مختلفة من العالم، ودوّن انطباعاته، وملاحظاته، في سلسلة كُتب تنتمي إلى أدب الرحلات، وهي لا تقل جدارة بالمعنى الإبداعي عن أعماله الروائية، ولا تقل عنها، أيضاً، حتى بالمعنى الكمي.

وفي سياق كهذا، وبقدر ما يتعلّق الأمر بالعالمين العربي والإسلامي، وقد كان كلاهما، خاصة الإسلامي، محط اهتمام نايبول، يمكن القول إنه كان سبّاقاً في رصد التحوّلات الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية التي أنجبت ظاهرة الإسلام السياسي، في بلدان مختلفة، بعد الثورة الإيرانية، والتحذير مما تنطوي عليه من مخاطر. وقد كرّس كتاباً صدر في أوائل ثمانينيات القرن الماضي بعنوان "بين المؤمنين: رحلة إسلامية" لهذ الأمر، وأعاد الكرّة بعد 14 عاماً في كتاب ثانٍ بعنوان "ما بعد الإيمان".

يمزج نايبول في الكتابين ما بين تقنية جهاز التسجيل، وعين الكاميرا، إذ يمكّن أشخاصاً يلتقي بهم في بلدان مختلفة، من التعبير عن أنفسهم، فهو لا يتكلّم نيابة عنهم، بل يمنحهم حق الكلام، وفي الوقت نفسه يسجّل بعين الكاتب، وهي تشبه كاميرا لا تغفل شيئاً من التفاصيل، البيئة الاجتماعية والأيديولوجية، والملامح الشخصية، للمتكلمين، وهؤلاء هم جنود مشاة الظاهرة المتطرفة، ومدفعيتها الثقيلة، وأبواقها الإعلامية والأيديولوجية.

في النظر إلى الواقع، في الكتابين المذكورين، كما في كل النتاج الإبداعي لنايبول، بعيداً عن الثنائيات ما يحرر حدقة العين، ويمكن القارئ من اكتشاف ما يسم الظلال من تعقيدات، وما تستدعي مِنْ، وتحرّض على التفكير. وإذا كان ثمة من عبارة تصوّر عالمه، ويصح التذكير بها في اليوم التالي لرحيله، فيمكن اختزالها في القول: إن عالمه الإبداعي قد اغتنى بقدر ما حرر وتحرر مِنْ ثنائيات.