رائد الأنثروبولوجيا الأمريكي كليفورد غيرتز .(أرشيف)
رائد الأنثروبولوجيا الأمريكي كليفورد غيرتز .(أرشيف)
الخميس 16 أغسطس 2018 / 20:17

كليفورد غيرتز وتأويل الشعوب ثقافياً!

ماذا لو أوجدنا محتويات ثقافيّة عربيّة افتراضيّة تستثمر وسائل التواصل الاجتماعيّ، وتُترجم إلى لغات العالم الحية، مواقع لرحّالة عرب يخاطبون العالم كلّه في أسفارهم بالقيم الكونيّة الكبرى وفي مقدمتها قيم التسامح

 كليفورد غيرتز Clifford Geertz(1926_2006) هو واحد من أبرز علماء الأنثروبولوجيا الأمريكيين، ومن أعمقهم تأثيراً بمؤلفاته الملهمة عالمياً، كما أنه مؤسِّس علم الأنثروبولوجيا الثقافيّة التأويليّة. لقد درس غيرتز الرموز والعلامات بوصفها أنظمة ثقافيّة تؤثِّر في حياة البشر وتحتاج إلى تأويل كي نقترب اقتراباً حقيقياً من شعوب تشكّل هذه العلامات والرموز الثقافيّة متخيّلها وذاكرتها الرمزية التأسيسّية، وأيّ سوء فهم في تأويل هذه العلامات والرموز قد يقود إلى سوء تفاهمات كبرى، ربَّما تؤدي إلى صدامات وكراهيات ثقافيّة عميقة ومنمَّطة تستمر إلى آماد طويلة. كانت المرحلة المفصليّة الفارقة في مساره البحثيّ هي مرحلة الدكتوراه عندما أنجز أبحاثه الميدانية في جاوة الأندونيسّية، ثم انتقاله بعد ذلك بسنوات إلى المغرب. وكانت محصلة هذا السفر كتابه المهم"ملاحظة الإسلام" Islam Observed  1968، الذي وصفه كثيرون بأنَّه مقاربة عميقة موضوعيّة للإسلام كما يراه الأندونيسيون وكما يراه المغاربة.

لقد كان الاضطراب والتشويش الذي ميّز مسارات الأنثروبولوجيا منهجياً في الخمسينيات وأوائل الستينيات بين الشكوك حول ماضيها الاستعماريّ واحتمال الوصول إلى الموضوعيّة في المعرفة الإنسانية هو الذي أدَّى بغيرتز أن يتجه صوب الانثروبولوجيا الثقافّية؛ سعياً منه لفهم أعمق لأنظمة المعاني وأساليب التفكير والرموز التي تميّز شعوب العالم. أورد غيرتز في كتابه "تأويل الثقافات"Interpretation of Cultures هذه الحادثة ذات الدلالات الثقافيّة العميقة جدًا؛ فعندما كان غيرتز وزوجته يقيمان في بالي الأندونيسيّة كان الأهالي يتجاهلانهما بشدة، واستمر التجاهل إلى أن وقع حادث تعاطف فيه غيرتز وزوجته مع الأهالي. وكان الحادث هو مداهمة الشرطة للقرية بسبب اشتراك أهلها في لعبة مصارعة الديكة، وهي لعبة محظورة قانونياً في أندونيسيا رغم كونها جزءاً من متخيّل مجتمع بالي وجزءاً من أساطيره القديمة. لقد تفهَّم غيرتز وزوجته بعمق دلالة هذه اللعبة بالنسبة إلى أهالي بالي لذلك تعاطفا معهم بشدة، ومن هذا الموقف اندمج معهم الأهالي وزالت تلك الغرابة المزعجة" لصورة الآخر الغربيّ!

تجاوزنا الآن في القرن الحادي والعشرين فكرة السفر الأنثروبولوجيّ للتعرّف إلى الآخر بوصفه ذاتاً ثقافية منمطة! وذاتًا مؤطَّرة وفقًا لمتخيّل سابق أياً تكن مرجعياته الثقافيّة من استعمارية "كولونيالية" أو حتى استيهامية "رومنطيقية! السفر الآن على درجة عالية من التعقيد والتشابك، أعني السفر الثقافيّ حقيقًيا كان أو افتراضيا! تقلصت الفوارق الثقافية بين شعوب العالم بفعل تلك العولمة الثقافية التي أحدثت "صورة منمطة واحدية الأبعاد" لسكان العالم جميعهم؛ صورة تفترض التشابه والتنميط أكثر مما تفترض الاختلاف والاستثنائية والمغايرة! وفي دراسة لأحد النقاد المشتغلين في الدراسات الثقافية بيّن ذلك الناقد أنَّ ظاهرة عالمية مثل "المولات= المجمعات التجارية الكبرى" قد أسهمت بصورة كبيرة في تنميط البشر عالمياً؛ ففي كلّ مكان في العالم توجد فيه هذه المولات ستجد بشراً متشابهين في ممارستهم الثقافيّة بما يسهل قولبتهم في صورة واحدة، فلا تختلف هذه الممارسات البشرية من مجمع تجاريّ إلى آخر في العالم كلّه.

وعربياً يفرض علينا هذا الأمر التحرّك الثقافيّ العاجل لاستثمار السفر الحقيقيّ والافتراضيّ في ترسيخ سياسات التنوع الثقافيّ والتفاهم بين شعوب العالم، وترسيخ قيم التسامح والتعدديات الثقافية لإقصاء سياسات التطرف والكراهية وإقصاء الآخر وتدميره.

ماذا لو أوجدنا محتويات ثقافيّة عربيّة افتراضيّة تستثمر وسائل التواصل الاجتماعيّ، وتُترجم إلى لغات العالم الحية، مواقع لرحّالة عرب يخاطبون العالم كلّه في أسفارهم بالقيم الكونيّة الكبرى وفي مقدمتها قيم التسامح، وماذا لو ركَّزنا على أدب الرحلات العربيّة المعاصرة، وتطوير هذه السرديات إلى كتب تختلف عن المألوف النمطيّ، كتب إبداعية تحتوي على القيم الكونية الخلاقة. لقد انتهى عصر "الغرابة المدهشة" الذي قرأناه عند ماركوبولو وابن بطوطة وعند الرحّالة الغربيين المأخوذين بسحر الشرق وغرابته! باستطاعتنا الآن ونحن في أماكننا السفر افتراضيًا حول العالم ! فلماذا لانستثمر السفر الحقيقيّ والافتراضيّ ثقافيًا من أجل المزيد من صناعة التفاهم بين شعوب الأرض؛ فالسفر الثقافي سيقلص الكثير من الفوارق الثقافية المتبقية، وسيسهم بالفعل في صناعة الإنسانية الحقة والسلام الذي تستحقه شعوب الأرض بعيدًا عن صناعة الكراهية والتدمير والحروب التي أنهكت كوكبنا البشريّ.