علما إسرائيل وحماس.(أرشيف)
علما إسرائيل وحماس.(أرشيف)
الأحد 19 أغسطس 2018 / 20:11

السياسة والذاكرة..!!

عدما أدركت حماس، من طرفها، أن حملات إسرائيل العسكرية لا تستهدف إسقاط حكمها، حاولت، وما تزال، إيجاد معادلة من نوع ما بين ادعاء مقاومة إسرائيل من ناحية، وتعزيز سلطتها في غزة من ناحية ثانية

لضعف الذاكرة نتائج تتجلى بطريقة كارثية في السياسة على نحو خاص. وهذا ما يجب الحفاظ عليه في الذهن عند التفكير في موضوع المفاوضات الجارية بين حماس وإسرائيل. فلا يحق لأحد نسيان أو تناسي، أن مفاوضات مشابهة سبقت ورافقت، وأعقبت ثلاث حملات عسكرية، واسعة النطاق، شنتها إسرائيل على قطاع غزة، وأن ما تم الاتفاق عليه في حينها من وقف لإطلاق النار، وتخصيص مبالغ مالية، وتنفيذ مشاريع اقتصادية، وإعادة تأهيل للبنية التحتية، وفتح منافذ على العالم، لم يتحقق منه الكثير.

والأسوأ من ضعف الذاكرة، وما لا يقل كارثية في تجلياته، عدم إيجاد صلات منطقية وموضوعية بين حقيقة عدم تحقيق الكثير من الحلول المطروحة على مائدة المفاوضات من ناحية، وحقيقة الدوافع السياسية والأيديولوجية، والحسابات الاستراتيجية، لطرفي المفاوضات من ناحية ثانية.

فحماس، التي انقلبت على السلطة الفلسطينية، واستولت على قطاع غزة بالقوّة المسلحة، في العام 2007، لن تتنازل عن حكم غزة حتى وإن أوصلت الناس هناك إلى حافة الكارثة الإنسانية. ولن تقبل، في أفضل الأحوال، بوجود فعلي للسلطة الفلسطينية على الأرض، ويتمثل طموحها الاستراتيجي في فتح منافذ بحرية وجوية، على العالم، تحررها من العلاقة القسرية بمصر، التي تحكم منفذ رفح البري. وهذا يعني التفاوض بشأن تفاهمات منفردة مع الإسرائيليين. وهذا ما تحاول قطر بوصفها صلة الوصل، ومقاول العلاقة مع الإسرائيليين، تحقيقه.

أما إسرائيل التي سحبت جنودها ومستوطناتها من قطاع غزة، قبل 13 عاماً، وفرضت عليه الحصار البري، والبحري، والجوي، فيتمثل هدفها الاستراتيجي في تكريس الفصل الجغرافي، والديمغرافي، والسياسي، بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي وجود كيانين فلسطينيين ضعيفين ومتناحرين فيهما، طالما أن في الفصل، كما في تناحر الكيانين، ما يُسهم في إجهاض مشروع الدولة الفلسطينية، وما يضفي وجاهة على القول بعدم وجود شريك فلسطيني يحظى بشرعية تمثيلية كافية في كل مفاوضات محتملة للسلام.

لذلك، لم تضع إسرائيل على رأس الأولويات، في كل الحملات العسكرية على غزة، إسقاط حكم حماس، بل سعت إلى تلقينها دروساً في معنى، وحدود، وضوابط الردع، وكل ما يجوز ولا يجوز في العلاقة بين الطرفين.

وبعدما أدركت حماس، من طرفها، أن حملات إسرائيل العسكرية لا تستهدف إسقاط حكمها، حاولت، وما تزال، إيجاد معادلة من نوع ما بين ادعاء مقاومة إسرائيل من ناحية، وتعزيز سلطتها في غزة من ناحية ثانية. فالمقاومة تمكنها من الحفاظ على قدر من التجنيد والتعبئة الداخلية، ومن إسكات وقمع المعارضين، وتعزيز الحكم الإخواني يستدعي الالتزام بقواعد وضوابط الردع.

وعلى الرغم من حقيقة أن حماس لا تشكل في نظر الإسرائيليين تهديداً عسكرياً يعتد به، إلا أنها مصدر تنغيص بأشكال مختلفة. فوجود جثث جنود قتلى أو إسرائيليين أحياء لدى حماس يدخل في، ويتداخل مع، لعبة السياسة الداخلية، والصراع على أصوات الناخبين في إسرائيل، كما أن تردي الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة يُعرّض الإسرائيليين لضغوط أخلاقية وسياسية في المنابر الدولية.

وقد تضافر هذان الأمران في الآونة الأخيرة مع المظاهرات الأسبوعية على الحد الفاصل بين غزة وإسرائيل، التي تسفر عن سقوط ضحايا بين الفلسطينيين، وإطلاق البالونات الحارقة، التي تشعل حرائق في الأراضي الزراعية المتاخمة للحد الفاصل على الجانب الإسرائيلي. وأسفر تضافر هذه الأحداث مجتمعة عن ضغط غير مسبوق على الحكومة الإسرائيلية، التي لا تريد شن حملة عسكرية جديدة، بلا أهداف سياسية واضحة، وعشيّة انتخابات محتملة من ناحية، ولا يمكنها تجاهل الرأي العام، والتباين في مواقف أطراف الائتلاف الحكومي من ناحية ثانية.

لذا، وإذا جاز القول إن المفاوضات الحالية تصدر عن، وتتموضع في، سياق كهذا، فلن تكتمل الدلالة السياسية الأبعد للسياق نفسه دون التفكير في ما يُتداول، ويُشاع، في الإقليم والعالم، عن "صفقة القرن" الأميركية، التي توحي بعض خطوطها العامة، وعلى الرغم من غموض معالمها الرئيسة، بالتفكير في إمكانية إنشاء دولة فلسطينية في غزة.

فكرة الدولة الفلسطينية في غزة ليست جديدة، وقد اقترحها الإسرائيليون على ياسر عرفات في أواخر تسعينيات القرن الماضي، وقوبلت من جانبه بالرفض. والجديد في الأمر أن حماس التي تفاوض الإسرائيليين بشكل مستقل عن السلطة الفلسطينية، ومنظمة التحرير، وكلتاهما تحظى بالشرعية العربية والدولية، قد تجد نفسها وقد تورّطت بشكل أو آخر في مشروع يتجاوز حجمها السياسي، وقيمتها التمثيلية، ووزن داعميها الأساسيين في الدوحة وأنقره.

هذا ما لا نعرف حدوده حتى الآن، فنتائج المفاوضات تأجلت إلى ما بعد إجازة العيد. ومع ذلك، ليس من السابق لأوانه القول إن مصير المفاوضات الجديدة، وما قد تسفر عنه إذا نجحت من تفاهمات، ووعود، ومشاريع، لن يكون أفضل حالاً من مفاوضات سبقت.