تعبيرية.(أرشيف)
تعبيرية.(أرشيف)
الثلاثاء 21 أغسطس 2018 / 20:24

بناءُ الإنسان … عن طريق الهدم (1)

الخوفُ على مَن نحبُّ، ليس فقط يجعل الكُليةَ تفرز هرمون الأدرينالين المنشط، ولكنه كذلك يطرد من داخلنا الصورة السلبية الخاطئة عن قدراتنا

قرّر القائمون على "نادي الشرق الأدنى للأرمن" بالقاهرة استضافتي في أولى صالوناتهم الفكرية الشهرية، لإلقاء محاضرة فكرية، اختاروا موضوعها من كتابي الأحدث: "إنهم يصنعون الحياة، بناءُ الإنسان في دولة الإمارات". ولأن الكتاب مُتاح في المكتبات لمن يريد فَضَّ سِرَّه، فكرتُ أن أتكلم عن "بناء الإنسان" من منظور فلسفي آخر، ومن زاوية مختلفة عمّا في متن كتابي الذي صدر هذا العام ٢٠١٨.

وكيف يكون عنوانُ المقال صحيحاً؟ هل يمكن أن يتمَّ "البناءُ" عن طريق "الهدم"؟ في الواقع هذا ما نفعله، نحن المهندسين، حين نُقرّرُ أن نُشيّدَ بنايةً ما على أرض ما. علينا أولا أن نهدمَ ما بها من بنايات قديمة، أو صخور طبيعية، ثم نحفرُ حفرةً عميقة لزرع الأساسات الجديدة، ثم تبدأ عملية البناء. على أنّ بناء البشر، لا شكَّ، يختلف عن بناء الحجر. فبناءُ طفلٍ صغير لا يتطلّبُ إلا تهيئة أرض صالحة لتنشئة هذا الطفل، وضبط مناخ مناسب لاكتساب القيم والأفكار الصالحة. ولكن المعضلةَ هي: كيف نُعيدُ بناءَ إنسان ناضج تهدّمت بعضُ قيمه؟ هذا كان محور المحاضرة وفكرة المقال.

أؤمن بأن أنسب الطرق لإعادة بناء إنسان غير صالح، هو أن نهدَمَ ما "ترسّب" في أعماقه من أدران، لم يُولد بها، بل تكوّنت مع السنوات والتجارب. فالطفل غالبًا يكون نقيًّا سويًّا بريئًا، ثم يكتسبُ ممن حوله ومع السنوات والمِحَن، ما يُشوّه روَحه ويُفسدُ فطرتَه، فيتعلّم الأنانيية والأنامالية والانهزامية وغيرها من المعوقات التي تجعلُ النجاح والسواءَ والمثالية تفرُّ منّا كما تفرُّ الطريدةُ من قنّاص شرس. لهذا نحنُّ إلى أيام طفولتنا، أيام برائنا من الأمراض والدنايا. فيما يلي سأوردُ بعضَ الأمثلة التي حضرتني، والتي يُمكن البناءُ عليها ومضاعفتها بالقياس.

• هدم الهدم = بناء
الطفلُ يصدق كثيرًا في أنه يستطيع أن يجمع بعض الريش الملوّن من أجنحة الطيور، ثم يصنع لنفسه جناحين كبيرين ويطير إلى أعلى العلا حتى يصعد إلى السماء ويركض بين النجوم ويدخل القمر ويختبئ فيه من أقرانه في لعبة "الاستغماية"، ثم يعود إليهم وفي يده حفنة من النجوم البرّاقة. وحين نخبره، نحن الكبار، أن كل ما سبق من خيال مستحيلٌ، يفقد الطفلُ القدرة على الحلم، ويبدأ في إعادة برمجة حياته على القدرات البشرية "المحدودة". الطفلُ هنا خسر شيئًا ثمينًا لن يسترده أبدًا: "الإيمان بالمستحيل". فهل من سبيل لإعادة ما خسره الطفلُ من طاقة الإيمان بالمستحيل؟ وكما نقول في المنطق والنحو إن "نفي النفي إثباتٌ"، وفي الرياضيات إن "سلبَ السالب موجب"، كذلك فإنَّ هدمَ الهدمِ بناءٌ. يُحكى أن مجموعة من الضفادع قررت أن تتسلّق جبل إيفرست الشاهقَ، في مسابقة رياضية.

 تجمهر المشاهدون عند سفح الجبل يتضاحكون ويسخرون من الضفادع التي أخذت في التسلق بحماس وإصرار غير عابئة بأصوات الساخرين في الأسفل. وبعد عدة دقائق بدأت الضفادع في التساقط واحدًا بعد الآخر من مسافات متباينة على درجات الجبل. إلا ضفدعًا واحدًا أكمل السباق حتى وصل إلى القمة الشاهقة. وحين هبط عائدًا إلى الأسفل احتشدت حوله الجماهيرُ تهنئه وتقدم له باقات الورود، وراحوا يُطوّقون عنقَه بأطواق الزهور ويُكلّلون رأسه بأكاليل الغار، غير مصدقين معجزة أن يتسلق ضفدعٌ صغيرٌ أعلى قمم جبال العالم. جاءت مذيعة تُجري معه لقاءً تليفزيونيًّا. وبدأت تسأله كيف حصد هذا النجاح المبهر؟ لكن الضفدع الفائز ظل يرمقها بنظرات لا مبالية ولا يجيب أسئلتَها. وبعد برهة تبيّن أن الضفدع الفائز أصمُّ لا يسمع. هنا يكمن اللغزُ المقدس. الضفدع الناجح لم يستمع إلى كلمات الإحباط التي أسقطتت زملاءه. وإذن هدمُ الهدمِ بناءٌ، يعني أن نهدم كلَّ ما يهدمنا، فنبني ونعلو وننجح. هدمُ الطاقة السلبية هو السبيل لبناء الطاقة الإيجابية. سلبُ السلبِ، إيجابٌ. ونفي النفي إثبات.

• وبعيدًا عن المثال الكارتونيّ الفولكلوري السابق، أمتلك مثالا واقعيًّا عائليًّا، من مدونتي الشخصية، يؤكد الفكرة نفسها.

كانت أمي رحمها اللهُ راقدةً على فراش المرض لا تكاد تتحرك. وكنتُ في زيارتها، ثم نزلتُ لأمضي إلى بعض أمري. وجدتُ سيارتي قد تهشّم زجاجُها فغضبتُ وعلا صوتي أسأل: مَن فعل هذا؟ سمعت أمي صوتي الغاضب من نافذة غرفتها وظنّت أنني عملت حادثًا بسيارتي، وأنني في خطر. فإذا بي أنظر إلى مدخل العمارة لأجد أمي، التي تركتها قبل دقائق راقدةً على فراش الوهن، تثبُ نازلةً على الدرج وثبات فتاة رياضية في الثامنة عشر من عمرها! صُعقت وجريتُ عليها أحتضنُها، فراحت تتفحّص في وجهي وجسدي حتى تأكدت أنني سليمة لا خدوش بي ولا كسور. وبعدما تأكدت أن ابنتها بخير، خارت قواها من جديد وأسلمت جسدَها النحيلَ للهزال من جديد؛ فحملناها إلى الأعلى وأرقدناها على السرير رقدتها الأولى. سألتُها مازحةً: “ماما كيف فعلت هذا؟ يبدو أنك تزعمين المرض بينما أنت صبيةٌ معافاة!” فابتسمت في وهن ولم تُجب. لكن علم النفس يُجيب عنها. الخوفُ على مَن نحبُّ، ليس فقط يجعل الكُليةَ تفرز هرمون الأدرينالين المنشط، ولكنه كذلك يطرد من داخلنا الصورة السلبية الخاطئة عن قدراتنا. فالمريضُ ينسى أن مريض، والواهنُ يطرد الوهنَ من جسده؛ وينطلق في قوة لمواجهة الخطر.

وفي مرات قادمة سأحكي لكم بناءات أخرى بوسعنا أن نبنيها على أطلال هدم أخرى ترسّبت طبقاتُها على جدران أرواحنا.