الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (أرشيف)
الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (أرشيف)
الأربعاء 29 أغسطس 2018 / 20:52

أشجار الغابة

عندما تصطدم الذاكرة بالنسيان، وينشأ صراعها معه، تكتسب كل الأحداث والأسماء والوجوه، قيمةً مُطلقة، ويكون طلب الذاكرة الفوري، لحضور الحدث أو الاسم أو الوجه، عارياً من الدراما

في الغالب تكون أحلامي مضطربة، مشوشة، وغير قابلة للحكي بعد اليقظة، بل تكون دائماً لحظة اليقظة، لحظة ارتياح وأمن، للخلاص من مادة الحلم. ولنمطية تلك الأحلام، وتكراراها، تراكمتْ لها صورة عامة. فهي تنطلق من تيه ما، وأنا في وسطه، ويجب عليَّ الوصول إلى مكان، ربما أعرفه، لكنني لا أعرف طريق الوصول إليه. التيه لا يكون في الحلم ملحاً، ولا يحمل معاني مجازية، مجرد تيه يحتاج إلى وصفٍ من أحد المارة، وهم قليلون في الأحلام، وإذا وُجدوا، فوصفهم رغم وضوحه وسهولته، عصي على فهمي. الأيادي تُشير إلى شارع، أو إلى ساحة، ستظهر بعد خطوات معدودة، وما عليّ سوى تجاوز الشارع، أو اختراق الساحة، لأجد نفسي أمام المكان المنشود، لكن الخطوات المعدودة تطول وتتعرج. يصعب على القول إنني لم ألتزم بالوصف، في حدود فهمي، كما يصعب القول بأن الوصف كان غامضاً، أو يتعمد الغموض. بانكسار وخيبة أفكر في العودة، لكنني أحتاج وصفاً آخر، يُضاف إلى الوصف الأول، حتى أستطيع، على الأقل، العودة إلى نقطة التيه الأولى، وهنا فقط يزداد التيه ثقلاً، فيحمل المعاني المجازية، ويصبح الحلم كابوساً.

انطلقتُ من نقطة ساكنة آمنة، والانطلاقة ليستْ بهدف المُغامرة، بل بسبب فورة ملل، تهدأ في الغالب بعد تمشية الساقين، وتمشية كُناسة الأفكار، إذ لا توفر لي النقطة الساكنة الآمنة التي لا هي بالمرتفعة، ولا هي بالمنخفضة، رؤية شاملة أبعد من كُناسة الأفكار.

ليستْ أفكار جبال كما هو الحال مع نيتشه، ومع هذا تنتعش كُناسة الأفكار، نوعاً ما، من الهواء الطلق. أحدد مكاناً يستغرق نصف ساعة في الذهاب إليه، ونصف ساعة في العودة منه. علامات الطريق هي البيوت والأشجار. في الذهاب تكون طموحات انتظام في المشي، وفي العودة تكون نذالة انقطاع عن المشي.

غنيت مع المطرب محمد عبد المطلب، بخضوع ويأس: أول ما شوفتك عشقتك قبل ما اتكلم. سمعت قلبي ندهني، وقال لي ما تسلّم. خفت أسلّم تفوتني، وقلبي يتألم. لكن لاقيتك ناكر، لاقيتك برمش العين بتغمز لي، فرح فؤادي، وقال لي يا سلام سلّم.

عندما تصطدم الذاكرة بالنسيان، وينشأ صراعها معه، تكتسب كل الأحداث والأسماء والوجوه، قيمةً مُطلقة، ويكون طلب الذاكرة الفوري، لحضور الحدث أو الاسم أو الوجه، عارياً من الدراما، وليس على طريقة بروست الذي تستدعي ذاكرته ما له قيمة درامية، وكأنَّ بروست لم تكن معركته مع النسيان، بل مع استعادة أحداث وأسماء ووجوه بعينها. في رواية "ضجيج الجبل" لكاواباتا، ينسى والد البطل اسم صديقة ابنه التي تعرَّف عليها قبل أربعة أو خمسة أيام. هنا كاواباتا أمام النسيان. قد يكون هذا النسيان المجرد هو بداية طريق الزهايمر، وهو ما زال فنياً، لكن كلما كسب معركته مع الذاكرة، كلما فقد ما هو فني، ولهذا تكون الأعمال الفنية التي تُعالج مرض الزهايمر، مُباشرة، ومتواضعة.

كنتُ في حلم تحت وطأة امتحان، وكان فزعي أن الأسئلة التي جريت عليها بعيني، لم تكن مفهومة.

قفزتُ بعقلي إلى نهاية الوقت بعد ساعتين، فازداد كربي. نظرتُ حولي. لا يبدو على أحدٍ عدم الفهم. جاءتْ من آخر الغرفة الكبيرة. مالتْ عليَّ. شرحتْ لي ما هو المطلوب دون أن تتجاوز الحدود المسموح لها بها. كان شرحها دقيقاً، وبصوت منخفض. شعرت بعار النظرات حولي. الآن عليَّ تمثيل الفهم، حتى لا تأتي مرةً ثانية.

من وراء زجاج النافذة، كان ضوء الشمس يغمر بقوة نصف المبنى الأعلى المقابل. بدا لي من وراء الزجاج، المحكم الغلق، وربما بسبب هواء التكييف البارد، ورائحة الأثاث، ورائحة القهوة والسجائر، أنني أنظر إلى عالَم آخر بعيد. كنتُ أقرأ في مذكرات زوجة فيودور ميخائيلوفيتش دوستويفسكي، آنا غريغوريفنا. وكانت المعلومة بأنها في العشرين من عمرها، ودوستويفسكي في الخامسة والأربعين، تستدعي الشفقة عليها. لن يراعي فيودور دوستويفسكي سقوط منطاد روحه الهائلة، عليها منذ اللحظة الأولى، كما يسقط ضوء الشمس على المبنى المقابل.

في رواية "على الطريق"، لجاك كرواك، كانت هناك رغبة عارمة لدى أحد أبطال الرواية، في الكتابة على ورقة رول، تفيض من الآلة الكاتبة، على أرض الغرفة، وفي الفيلم المأخوذ عن الرواية، وباسمها، إخراج والتر ساليس 2012، كان هذا المشهد يمس قلب كل كاتبٍ. الورقة الرول تعني أن الكتابة، لكي تقبض على ما تريده، لا بد لها من عدم الانقطاع. ينطلق أبطال كرواك على طريق سريع لا يتوقف. أثناء كتابتي لرواية "الرسائل"، كان تسويد الصفحة كاملةً، دون فراغات، ودون حتى فواصل ونقاط، هاجساً يُشبه ورقة الرول التي تفيض من الآلة الكاتبة. شيء ما يُفْقَدْ أثناء التوقف، ولا يستطيع الكاتب استعادته.

في كتاب "الهوامل والشوامل"، للتوحيدي ومسكويه، المعاني تلزمها الأسماء، ويعتادها أهل اللغات على مر الأيام، حتى تصير كأنها هي، أي كأنّ المعنى والاسم شيء واحد، فالاسم هو المسمى، لكن البعض يختلف في تفسير مسافة التطابق بين الاسم والمعنى، فهناك مَنْ يزعم أن الاسم يقطع المسافة إلى المعنى، لينطبق عليه، وهناك مَنْ يزعم العكس، أي أن المعنى هو الذي يقطع المسافة إلى الاسم، لينطبق عليه. والأصوب أن جزءاً ضئيلاً من المسافة لا يتم قطعه بين الاسم والمعنى، ويبقى هذا الجزء الضئيل في حال قطع مستمر للمسافة، ولا يستنفذها، لبلوغ التطابق النهائي، ولهذا نقول مجازاً: الاسم والمسمى شيء واحد.

من الأمثال التي تُستخدم كاستعارة للتعبير عن أشياء أعيتْ مَنْ يداويها، أن من كثرة الأشجار لم أر الغابة. وعند بورخيس أفضل مكان لإخفاء، وحفظ ورقة صغيرة، بسر كبير، هو غابة.

تتضخم قيمة العادات الصغيرة في الطعام والشراب أمام صخرة الزمن، فهي تنحت مجداً لن يراه أحد.