مجمع للجامعة اللبنانية.(أرشيف)
مجمع للجامعة اللبنانية.(أرشيف)
الجمعة 31 أغسطس 2018 / 19:27

بلد الجامعات

فقدت الجامعة اللبنانية حصانتها وحدودها الأكاديمية، وصارت مع الوقت جامعات تعكس كل واحدة منها الوسط التي تعيش فيه من حيث اللغة والخطاب، وبالتأكيد فقدت استقلالها ووقعت تحت حزبية وثقافة محيطها

تحمل الجامعة اللبنانية عبء المجتمع الذي نشأت فيه وعبء الدولة التي أنشأتها، فمنذ ما يناهز الـ 44 عاماً، وهي تاريخ الحرب اللبنانية، تدهورت الدولة وفقدت حصانتها وحدودها أمام الطوائف التي غزتها وتناوشتها، وإبّان هذا الوقت الطويل، فقدت الجامعة اللبنانية حصانتها وحدودها الأكاديمية، وصارت مع الوقت جامعات تعكس كل واحدة منها الوسط التي تعيش فيه من حيث اللغة والخطاب، وبالتأكيد فقدت استقلالها ووقعت تحت حزبية وثقافة محيطها. الفروع التي في القاطع المسيحي عكست ظروف مجتمعها وحزبياته، أما الفروع التي في القاطع الإسلامي فتحولت هي الأخرى الى امتدادات لحزبيات القاطع وثقافاته، وبالطبع كان لحزب الله في ذلك السطوة الأكبر، فصارت الجامعة مصنعاً ثقافياً للحزب، وبالتالي ضاعت الجامعة بين الحزبيات والثقافات الخاصة. لم يكن هذا حال الطلاب وحدهم بل صار مع الزمن حال الاساتذة والمسؤولين، وفي وضع كهذا لا يبقى الكثير من الحصانة الأكاديمية التي تُنتهك من قبل الجماعات والأحزاب. تسقط الحصانة الأكاديمية وتسقط معها كل حصانة، فلا يبقى للدرس الجامعي والمعايير الجامعية اي مهابة وأي وزن فهذه تغدو مع الوقت صورية.

يمكن أن نتخيل إلى أين وصلت الجامعة بعد قرابة أربعة عقود ونصف، كانت الدولة فيها شبه معلقة ومؤسساتها مثلها عائمة أو على السطح. لقد ضاقت المسافة بين المؤسسة الأكاديمية وبين العلاقات الاجتماعية، بينها وبين المجتمع، وتحكمت بها من قريب وبعيد هذه العلاقات، وبالطبع تسلقت خطابات الطوائف بطريقة، أو بأخرى الحاجز الأكاديمي. هذه المدة الطويلة التي تعاقبت على التدهور الجامعي، بدأت تثقل الجامعة التي فقدت معها الاعتبار الثقافي والاجتماعي.

 وبعد كل هذا الوقت من السقوط جاءت الصحوة، ليست صحوة تماماً فهي يقظة الجماعات على ما أدى اليه عبثها. لقد تهلهلت الجامعة وفقدت اعتبارها ومكانتها. وهي وإن صارت في أيدي الجماعات والحزبيات إلا أنها فقدت مع الوقت عائداتها على هذه الجماعات. لقدت حمل تدهور الجامعة وما يعنيه ذلك من التدهور الأكاديمي الجميع الى بناء جامعات جديدة قامت غالباً بخفة وبقلة حرص، فتحول بذلك العمل الأكاديمي كله الى لا شيء، وامتلأ البلد بحملة شهادات وألقاب علمية شبه زائفة. لقد ارتد عمل الحزبيات في الجامعة اللبنانية عليها، وبدلاً من أن تملك المحيط الأكاديمي صار هذا المحيط ملهاة علمية.

هكذا وجدنا فجأة آثار هذه الصحوة على الجماعات والحزبيات التي تسببت بالانتكاسة. لقد وجدت أنها خسرت من حيث حسبت أنها تربح، وأنها بانحدار العمل الأكاديمي لا يبقى لسطوتها عليه اي معنى. والاستمرار في انحدار الجامعة اللبنانية يجعلها خسارة للعلم والثقافة تتحمل هي مسؤوليته. من هنا جاءت الصحوة التي لم تكن بالطبع شاملة، فبدلاً من النظر إلى جهاز الجامعة وتقنياتها ومناهجها ومستواها ومسايرتها للتطور العالمي. بدلاً من ذلك اتجه النظر إلى التضييق على طلاب الدكتوراه وحصر أعدادهم في كل حقل أكاديمي. كان هذا رداً على اتهام الجامعة بالخفة والسهولة والسخاء في منح الألقاب الجامعية. مع ذلك لم يرض ذلك كثيرين ووجد كثيرون فيه فرصة للصراخ احتجاجاً على ما صارت إليه الجامعة. لكن في بلد يكاد عدد الجامعات يفوق الخمسين يبدو أن العمل الأكاديمي كله بحاجة الى إعادة نظر. الواضح أن مستوى الجامعة جرّ كل المستوى الأكاديمي الى درجة من الخفة والاستهانة وأن الجامعة اللبنانية لن تكون بذلك المدماك الذي تُبنى عليه حياة جامعية أخرى. إن المسألة هي أولاً في وجود الدولة وما زالت الدولة كالجامعات منقسمة ومتحاصصة، فإن إنقاذ المستوى الأكاديمي كإنقاذ المستويات الأخرى لن يؤدي الي شيء.