متظاهرون من اليمين المتطرف في مدينة كيمنتس.(رويترز)
متظاهرون من اليمين المتطرف في مدينة كيمنتس.(رويترز)
الأحد 2 سبتمبر 2018 / 19:22

أقنعة تثير السخرية والخوف في آن

لا مفر من الاعتراف بحقيقة أن المجتمع الألماني يشهد صراعاً جدياً، وانقساماً حاداً، بشأن الهوية الثقافية، والنظام السياسي، والتوجّهات العامة للدولة

يزن النصب التذكاري لرأس كارل ماركس أربعين طناً، ويجلس على قاعدة حجرية ترتفع سبعة أمتار عن الأرض. ومن هذا الارتفاع يطل ماركس، بلحيته الكثة، وملامحه المتجهمة، على أحد الميادين الكبرى في مدينة كيمنتس شرقي ألمانيا.
  
والواقع أن المدينة نفسها كان اسمها مدينة كارل ماركس في زمن ما عُرف بجمهورية ألمانيا الديمقراطية، التي انهارت مع سقوط جدار برلين، وانتهاء الحرب الباردة في 1990. ورغم أن المدينة استعادت اسمها القديم السابق للعهد الشيوعي، إلا أن النصب التذكاري ظل شاهداً، كأشياء كثيرة، على حقيقة أن الماضي لا يغادر الحاضر تماماً بل يحضر فيه بطريقة ما، حتى وإن اختلفت الدلالات والتسميات.

وهذا ما أفصحت عنه مفارقات يتاخم بعضها حد الكوميديا السوداء، وقعت يوم أمس، السبت، تحت النصب التذكاري، وفي محيطه، والشوارع المؤدية إليه. فقد احتشد هناك بضعة آلاف من المتظاهرين احتجاجاً على مقتل شاب ألماني على يد اثنين من طالبي اللجوء يوم الأحد الماضي، 26 أغسطس (آب).

والمُلاحظ، في هذا الشأن، أن المتظاهرين الغاضبين ردوا على تدخّل الشرطة، التي حاولت تفريقهم، والحيلولة دون اشتباكهم مع مظاهرة مضادة، بهتاف: "نحن الشعب"، أي الشعار نفسه الذي أطلقه المتظاهرون عشيّة سقوط جدار برلين احتجاجاً على كبت ومصادرة النظام الشيوعي للحريات العامة. وبهذا كان يعبّرون، قبل ثمانية وعشرين عاماً، عن توقهم إلى الانفتاح، والتعددية السياسية، والديمقراطية.

أما المفارقة فتتجلى في حقيقة أن المتظاهرين الغاضبين، يوم أمس، هم أبعد ما يكون عن الانفتاح، والتعددية السياسية، والديمقراطية، بل هم نقيض هذه القيم، والشبح الذي يُمهّد صعوده لتقويضها. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يرفع بعضهم يده بالتحية النازية التقليدية. فهؤلاء هم أقصى اليمين المتطرف في ألمانيا، الذي يضم النازيين الجدد، على اختلاف تنظيماتهم وجمعياتهم، ومنظمة بيغيدا، واسمها الكامل "وطنيون أوروبيون ضد أسلمة الغرب"، وحزب البديل لألمانيا.

والقاسم المشترك بين كل هؤلاء: التطرّف القومي، والعنصرية، والإسلاموفوبيا، أو كراهية الأجانب عموماً، والتنديد بالسياسات الرسمية، التي سمحت بفتح أبواب البلاد في وجه اللاجئين. ولا يستدعي الأمر كفاءة خاصة لإدراك حقيقة أن هؤلاء تدفقوا على المدينة من مناطق مختلفة في ألمانيا، وأنهم استغلوا حادثة مقتل الشاب الألماني، في عرض للقوّة، ومحاولة للتعبئة والتجييش، وكسب مزيد من الأنصار والمتعاطفين.

ويبدو أن في الذاكرة التاريخية للمدينة، وهي الثالثة بعد درسدن، ولايبزغ، من حيث عدد السكّان في ولاية ساكسونيا، ما حرّض اليمين على اختيارها كمكان للتظاهر، فقد كان برلمانها في ثلاثينيات القرن الماضي من أوائل البرلمانات التي فاز فيها النازيون بالأغلبية. وعلى الرغم من عداء النظام الشيوعي للنازية، بالمعنى الأيديولوجي، إلا أن المدينة، والولايات الألمانية التي وقعت تحت سلطته ما بين 1953-1990، تحوّلت إلى معقل لليمين المتطرّف، بعد توحيد ألمانيا.

ومن هنا يأتي مصدر المفارقة الثانية، فالأيديولوجيا التي روّج لها صاحب النصب التذكاري في مدينة كيمنتس معادية من حيث الجوهر للنزعات القومية المتطرّفة، وداعية إلى أخوّة الشعوب، والمساواة بين بني البشر، ويُفترض بقيم كهذه أن تترسخ في قلوب وأذهان المواطنين عن طريق نظام التعليم المركزي، وأجهزة الإعلام، والسياسة العامة للدولة.

وهذا، على الأرجح، ما فعله النظام الشيوعي، بل وأكثر منه عندما أطلق اسم صاحب الأيديولوجيا نفسها على المدينة. ومع ذلك ثمة حلقة مفقودة في مكان ما، ويمكن العثور عليها في حقيقة أن الأنظمة الشمولية، حتى وإن تبنّت أيديولوجيا مغايرة، تعزز لدى مواطنيها الميل إلى التمركز على الذات، والحصرية، والإقصاء.

وبهذا المعنى تصلح كيمنتس كوسيلة إيضاح. ومع ذلك، ثمة ما هو أبعد منها، ومن حادثة مقتل شاب ألماني على يد اثنين من طالبي اللجوء، فلا مفر من الاعتراف بحقيقة أن المجتمع الألماني يشهد صراعاً جدياً، وانقساماً حاداً، بشأن الهوية الثقافية، والنظام السياسي، والتوجّهات العامة للدولة.

ولا مفر من الاعتراف، أيضاً، بحقيقة أن موجات المهاجرين وطالبي اللجوء، الذين تدفقوا على البلاد في السنوات الماضية، وكذلك موجة الإرهاب التي ضربت في مناطق مختلفة من العالم، وفي ألمانيا نفسها، قد أضفت حدة استثنائية على صراع كهذا. فمقابل كل مظاهرة لليمين المتطرّف يخرج متظاهرون ضدهم، وفي هذا ما قد يؤدي إذا تفاقم الوضع إلى العنف.

على أي حال، وعلى الرغم من صعود اليمين في الانتخابات النيابية الأخيرة، ونجاحه في تنظيم مظاهرات لم تعد تنحصر في بضع مئات، بل تجاوزت هذا العدد إلى بضعة آلاف، إلا أن قيم الديمقراطية الليبرالية، وحقوق الإنسان، ما زالت سائدة لدى الأغلبية. ففي الذاكرة التاريخية للألمان ما يُحرّض على قرع أكثر من جرس للإنذار كلما أطل القوميون والعنصريون والنازيون برؤوسهم حتى وإن وضعوا على وجوههم أقنعة تثير من السخرية، بقدر ما تثير من الخوف، من نوع "نحن الشعب".