من الحراك المدني  عام 2015 في لبنان .(أرشيف)
من الحراك المدني عام 2015 في لبنان .(أرشيف)
الأربعاء 5 سبتمبر 2018 / 20:03

الطبقات الوسطى وأكلاف التغيير

في بلد كلبنان، بيّن "الحراك" الذي عرفته بيروت في 2015، انطلاقاً من أزمة جمع النفايات المتراكمة، أنّ قدرة الطبقة الوسطى المدينيّة وشبيبتها محدودة جدّاً بقياس قدرات النظام الطائفيّ

هناك مشكلة باتت عابرة لحدود الدول والوطنيّات، كما باتت عائقاً لا يُستهان به دون التغيير إلى الأحسن: إنّها وضع الطبقات الوسطى المدينيّة التي تملك تصوّراً للتغيير كما تملك، مبدئيّاً على الأقلّ، أدوات تحقيقه وإنفاذه.

لنأخذ حالة إيران مثلاً: الطبقات الوسطى المدينيّة، لا سيّما قطاعاتها الشابّة، تحمل طموحات ومثالات لا صلة لها بتاتاً بالطموحات والمثالات التي تعبّر عنها المجموعة الحاكمة. إنّها غربيّة الهوى وتقدّميّة وعلمانيّة ومنفتحة على الثقافات الغربيّة والعالميّة. مع هذا فهي لا تستطيع أن تحرّك ساكناً حيال سلطة الملالي المطلقة والمدعومة بالقطاعات الأكثر ريفيّة وتديّناً، والتي هي، في الوقت ذاته، الأقلّ تعليماً وتعرّضاً لرياح الخارج وتأثيراته. هذه الطبقة الوسطى المدينيّة بذلت كلّ ما في وسعها عام 2009، مع "الثورة الخضراء"، من أجل أن تُحدث فارقاً جدّيّاً في الوضع العامّ، لكنّ مسعاها قوبل بقمع شديد لم يقض فحسب على طاقتها النضاليّة، بل قضى أيضاً على كلّ احتياطيّ نضاليّ قد تملكه في المستقبل القريب.

وراء هذه الحقيقة يكمن ذاك التناقض بين نظام سياسيّ لا يتورّع عن الذهاب بعيداً في القمع والقسوة، وبين قيم صارت أشدّ سلميّة واحتفالاً بالفرد والفرديّة، وأقلّ قابليّة للتضحية بأبنائها في سبيل التغيير، خصوصاً أنّ مستويات إنجابها للأبناء باتت تنخفض كثيراً عن معدّلات الإنجاب الوطنيّة.

الشيء نفسه نلقاه في أشكال وصيغ أخرى في عدد لا يُحصى من البلدان: من تركيّا – حيث تعاني الطبقة الوسطى المدينيّة جلافة رجب طيّب إردوغان المدعومة من الكتل الريفيّة وتلك النازحة من قراها إلى المدن – إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة، حيث وضـع دونالد ترامب كتل الفقراء والمهمّشين البيض في مواجهة المدن الكوزموبوليتيّة والحواضر المدينيّة الكبرى بثقافاتها التعدّديّة و"النخبويّة". ومن فنزويلاّ في أمريكا اللاتينيّة إلى الفيليبين في آسيا تختلف الأسماء والأوجه فيما تبقى المشكلة، في جوهرها، هي نفسها. حتّى في بلد كلبنان، بيّن "الحراك" الذي عرفته بيروت في 2015، انطلاقاً من أزمة جمع النفايات المتراكمة، أنّ قدرة الطبقة الوسطى المدينيّة وشبيبتها محدودة جدّاً بقياس قدرات النظام الطائفيّ.

هنا يتبدّى كأنّ مدّ الثورات السلميّة التي افتتحتها بلدان أوروبا الوسطى والشرقيّة في 1989 – 1991 قد توقّف وعجز عن اختراق قارّات وبلدان أخرى. ذاك أنّ الطبقات الوسطى المدينيّة هناك أكبر وأقوى من مثيلاتها في البلدان المذكورة، وهي، قبل هذا وبعده، وجدت ما يوقظها في تداعي أنظمتها الشيوعيّة بعد انهيار النظام الشيوعيّ في الاتّحاد السوفياتيّ ذاته. وغنيّ عن القول إنّ أنظمة كالإيرانيّ والتركيّ، التي يتعاظم ميلها إلى القسوة والعقاب، ليست في هذا الوارد.

وإلى اللوحة هذه قد نضيف عاملين غير مشجّعين: من جهة، أنّ انقلاب معظم الثورات العربيّة إلى حروب أهليّة إنّما نزع القيادة من أيدي شبيبة الطبقة الوسطى المدينيّة ووضعها في أيدي قطاعات متخلّفة وعنفيّة تنهل مصادر دعمها من الأرياف والعلاقات الأهليّة. أمّا من جهة أخرى، فكان لصعود الشعبويّات القوميّة في الغرب عموماً، وفي الولايات المتّحدة خصوصاً، أن حرم التطلّعات التقدّميّة في العالم من موقع دعم وتأييد لا غنى عنه، ومن مرجع تقليد برهنت تجربة الثورات التشيكيّة والبولنديّة والهنغاريّة وسواها على أهميّته.
وهذا، بالطبع، لا يعني استحالة التغيير حيث ينبغي التغيير، لكنّه مجرّد إشارة إلى صعوبة أخرى، جديدة نسبيّاً، من صعوباته.