الممثل جين هاكمان في فيلم "المحادثة".(أرشيف)
الممثل جين هاكمان في فيلم "المحادثة".(أرشيف)
الأربعاء 5 سبتمبر 2018 / 19:45

المحادثة

من تعقيدات شخصية هاري كول الدرامية، أنه مسيحي متدين، لا يفهم النكتة، ويعزف في وقت فراغه، على آلة الساكسفون، ويذهب للاعتراف في الكنيسة

موضوع فيلم “The Conversation”، أو "المُحَادَثَة" 1974، للمخرج فرانسيس فورد كوبولا، المُرَاقَبَة التي تعني النفوذ والسُلطة والأسرار، وربما في النهاية القتل. الممثل جين هاكمان يقوم بدور المُراقِب، أو المُتنصت المحترف هاري كول. يُدخلنا كوبولا مُباشرةً في المهمة. ميدان مُربَّع به أشجار، وعمود يُشبه المسلة، ومقاعد استراحة، وعازفو جاز جائلون، ومتسكعون، ومشردون بشعور الهيبي الطويلة. وفي الميدان، رجل وامرأة يتحدثان، ويسيران في دوائر.
  
هدف هاري تسجيل المُحَادَثَة بين الرجل والمرأة. المُحَادَثَة بين الرجل والمرأة، متقطعة بكلمات قد لا تنفع هاري كثيراً، كأن تطلب المرأة دولاراً من الرجل لعازف الجاز، أو كأن تقول عن مشرد عجوز نائم على مقعد: هذا مروع. فيقول الرجل: إنه لم يؤذ أحداً. فترد المرأة: وكذلك نحن. فقط جملة المرأة الأخيرة، تهم هاري. مَنْ سيؤذي الرجل والمرأة دون ذنب مثل العجوز المشرد؟

هاري يعمل مع فريق مُراقَبَة صغير. تشك المرأة في واحد منهم، يحمل حقيبة تسوق، ويضع سماعتين على أذنيه. يقترح الرجل بأن يفترقا، فتطلب المرأة البقاء قليلاً، وكأنَّ الرقابة حدث أكبر من قدرة المرأة والرجل على تجنبها، فهما يتوقعانها، ولهذا يستسلمان إلى التسكع والحديث. وكأنَّ كوبولا يريد قتل إحساس الإثارة والتشويق، لحساب التأمل. يُعزز كوبولا تأمل الرقابة، بإيقاع بطيء. يفتت كل كلمة قالها الرجل، وقالتها المرأة.

يستغل هاري طبيعة تقنية تسجيل الصوت، التي تلتقط أحياناً، أي باختيار كوبولا، الصوتَ مشوشاً، لإضفاء مزيد من الغموض على المُحَادَثَة، كما استغل أنطونيوني في فيلم "بلو أب" 1966، تقنية التصوير الفوتوغرافي، لإضفاء مزيد من الغموض على جريمة قتل، عبر تكبير، وتقطيع عشرات المقاطع من صورة واحدة. بالمثل يقف هاري كول، في الاستوديو الخاص بعمله، على جملة واحدة، لتنقيتها، الجملة تخرج من فم الرجل: سيقتلنا إذا أتيحت له الفرصة.

رغم إجادة هاري كول لمهنته، وشهرته في مجال التنصت، إلا أنه ارتكب خطأً مهنياً لا يُغتفر، وهو التفكير في المادة المُسجَّلة. كان عليه أن يسلِّم الشرائط المُسجلة للعميل، أو للمدير كما يُطلق عليه، لكن هاري تمسَّك بحجة، تبرر له عدم تسليم الشرائط، وهي أنه لم يجد مَنْ كلفه بالمهمة، بل وجد مَنْ ينوب عنه في مكان أشبه بمؤسسة، أو شركة عقارية كبيرة، نافذة القوة. ومع أن المال المُتفق عليه عند تسليم الشرائط، لا خلاف عليه، وهو في متناول يده، إلا أن هاري يرفض تسليم الشرائط، وبهذا يدخل في دائرة الرجل والمرأة، أي يدخل في دائرة المُرَاقَبَة، المُراقِبْ أصبح مُرَاقَبَاً.

من تعقيدات شخصية هاري كول الدرامية، أنه مسيحي متدين، لا يفهم النكتة، ويعزف في وقت فراغه، على آلة الساكسفون، ويذهب للاعتراف في الكنيسة، وحتى قبل التفكير في مادة عمله المُسجَّلة، كان يعاني من بدايات بارانويا، فهو يُغلق باب شقته بثلاثة أقفال على ارتفاعات مختلفة في جسم الباب، ويعيش في عزلة شديدة، وعندما يذهب لصديقته آمي، التي لا تعرف عنه شيئاً، ينتظر أعلى السلم، أمام باب شقتها، يُراقب في هدوء، قبل أن يفتح الباب بطريقة مريبة. تقول له صديقته آمي، بأنها تشعر كما لو كان يريد ضبطها بفعل ما. وعندما تدفعه برقةٍ للحديث عن نفسه، عن أسراره، لا تجد من هاري سوى الجمود البارد، وهو يقول لها: ليس لدي أسرار.

تلعب ميريديث على هاري كول، كي تسرق شرائطه المُسجَّلة، فيعترف لها بين النوم واليقظة، بأنه قد تسبب في أذى البعض، وتعرضتْ في السابق، أسرة كاملة للقتل، بسبب إتقان عمله. المؤلم في دراما هاري، أن صديقته آمي كانت جديرة بأسراره، لكنه وقع في المُرَاقَبَة، فأصبح طريدة هشة لميريديث.

في حلمٍ يرى هاري المرأة التي يراقبها، يقول لها إنه يعرفها، لكنها لا تعرفه، ليس هناك الكثير ليقوله عن نفسه لها: كنتُ طفلاً مريضاً، وأصبت بالشلل في ذراعي الأيسر وساقي اليسرى، ولم أستطع المشي لستة أشهر. سوف يقتلك إذا أتيحت له الفرصة. يقول هاري للمرأة في الحلم، نفس عبارة الرجل الذي كان معها، فقط يجعل القتل يخصها وحدها.

تطلب المرأة في محادثتها مع الرجل أن يتظاهر بأنها ألقتْ على سمعه نكتة. يضحك الرجل، ويقول لها: أين سمعتي ذلك؟ فترد: هذا هو سري. يقول الرجل: الأسبوع القادم ربما يوم الأحد. ترد المرأة: يوم الأحد بالتأكيد. يقول الرجل: في فندق جاك تار، الساعة الثالثة في الغرفة 773.

يذهب هاري كول لفندق جاك تار حاملاً أدوات التنصت في حقيبة. يطلب هاري الإقامة في الغرفة 773. يُقال له أنها مشغولة، وأن الغرف جميعاً مُتشابهة. يستأجر هاري غرفة ملاصقة للغرفة 773. وبجوار قاعدة الحمَّام، يجهز هاري أدوات المُرَاقَبَة. يستغرق كوبولا في استعراض أدوات التنصت، وهذا الاستغراق الجمالي، أعظم ما في فيلم "المُحَادَثَة". يسمع هاري كلمات الرجل والمرأة التي يُغلب عليها المُشَاجَرة. تنتاب هاري نوبة هذيان، فيرى صوراً كابوسية لدماء تلطخ زجاجاً، ويسمع صراخاً.

بعد مدة زمنية، يعالج هاري قفل الغرفة 773، ويدخلها. لا أحد في الغرفة، وكل شيء نظيف ومُرتب. يدخل هاري حمَّام الغرفة. أسس هيتشكوك منذ فيلم "سايكو" 1960، بشاعة الدماء الحمراء، وهي مراقة على بلاط أبيض في حمَّام، وما يؤسسه هيتشكوك، يعيش طويلاً في ذاكرة السينما. ينظر هاري كول بشك، لقاعدة الحمَّام، النظيفة البيضاء، ويرفع غطاءها بحذر، ثم يضغط على مقبض مياه السيفون أعلى القاعدة، فتنبثق المياه مختلطة بدم أحمر، وقطعة قماش، سدت مجرى الصرف. تفيض المياه الحمراء، وتزداد في حمرتها، كلما فاضتْ عن القاعدة البيضاء.

يقرأ هاري في الجرائد: مقتل مدير أعمال كبير في حادث سير. أحد الصحفيين يسأل المرأة عن احتمال أن يكون الحادث مدبراً. وصحفي آخر يسأل المرأة عن نسبتها في أسهم الشركة، وماذا عن توليها الإدارة. يُقال لهاري كول في التليفون بأنه مُرَاقَبْ. يُطعم هاري البارانويا، فتزداد سِمْنة. ينزع ستائر شقته باحثاً عن جهاز تنصت، يٌحطم براويز الأبواب، يفكك تعليقات المصابيح، ومربعات مفاتيح الكهرباء، وعدة التليفون. ينزع أوراق الحوائط. وهنا نصل إلى أقسى مَشاهِد بارانويا البحث، وفيها ينزع هاري الأرضية الخشبية، بعتلة حديد، ثم يعزف على آلة الساكسفون.