السبت 8 سبتمبر 2018 / 21:11

الأدب وفلسفة الصمت بين الشرق والغرب

عندما سئل صمويل بيكيت عما يقصده من اصطلاح "أدب الصمت" أجاب بلا مواربة: "التعبير عن أنه لا شيء هناك أعبر عنه. لا شيء أعبر به. لا شيء أعبر منه. لا رغبة في أن أعبر عن شيء. ذلك كله مع الالتزام بأن أعبر".

وبعد تفكير عميق انتهى بيكيت، الذي بدا في سنواته الأخيرة بليغاً في عزلته الصامتة، إلى أن المعنى الجوهري للكتابة، يجب أن يكون أقرب إلى الصمت، وأن العتمة التي كانت تفزعه عند اشتداد الأزمات هي في الحقيقة الحليف الأكثر قوة وجدارة بالتقدير، ولهذا شرع في كتابة أعماله التي تخلص فيها من الإرث اللغوي الثري المفعم بالبلاغة، ومن تراث الأجداد. وهكذا شرع يكتب بالفرنسية "بحثاً عن المزيد من الفقر في مجال اللغة" بحسب تعبيره، مُبتعداً عن التزويق البلاغي. ولذا بدت الشخصيات في روايتيه "مالون يموت"و"مولوا" وكأنها تذبل وتتعفن داخل واقع بائس، تجعل اليقظة أشبه بالنوم أو الغيبوبة. وفي رواية "المقزّز" تقول الشخصية الرئيسيّة فيها: "لنكمل كما لو أنني الوحيد في العالم في حين أني الوحيد الغائب". وفي أعمال أخرى نحن نجد أنفسنا أمام عالم مقفر تماما، عالم فيه ينصت الصمت إلى الصمت، ويتحول كل شيء إلى غمغمة يائسة في فراغ الوجود، حيث لم يعد للكلام معنى في عالم صاخب عنيف.

وقد ظهر في هذا الاتجاه أدباء مهمون مثل كامو ومالرو ويونيسكو، والذين يحاولون تنقية اللغة من أي زخرفة أو شحنات عاطفية وصور جمالية مجازية تجعل المعنى مراوغا أو مدفونا تحت أطمار من المحسنات البديعية، أو متواريا وسط جيشان العاطفة وسعار الانفعال.

ويؤمن هؤلاء أن الكلمات مهما كانت دقيقة فليس بوسعها أن تعبر عن كل ما نريد أن نقول، ولذا فقد تحدث أتباعه عما أسموه "أدب الصمت"، وصاروا يشكلون تيارا أو مدرسة، تتحمس لهذه المفارقة التي تعتقد في إمكانية أن يكون الصمت قائما مقام الكلام في نشاط أو ممارسة إبداعية وحياتية لا يتم التعبير عنها سوى بالكلمات. فالحقيقة التي يكتشفها هؤلاء العدميون أنه ليس هناك شيء يقال، وأن الكلمة ليست هي المطلق، أو القادرة على كل شيء، وأن اللغة، التي يتعامل معها الأديب على أنها أداته الأساسية، ليست سوى فخ أو مصيدة، لأنها لا تحدث أي تغيير في الوضع الإنساني، ويبقى الأدب عاجزا وقاصرا ومفلسا. ولهذا استخدم أنصار هذه المدرسة ليبرهنوا على زيف اللغة، ولجأوا إلى أساليب تكتيكية معقدة في السخرية واللمز والإبهام والتعريض والاستعارة والدعابة السوداء والصور الشائهة، وقدموا طريقا في "بلاغة العقم" والاستسلام لمسار اللاأدرية واللامعرفة .

فهناك دوما ما لا تسطيع الكلمات أن تحط به، وهنا يقول د. مصطفى محمود في معرض تعرضه لمدى قدرة الكلمات المنطوقة على التعبير عن مشاعرنا ومكنون نفوسنا وخلجاتها:
"نحن نتبادل الكلمات والحروف والعبارات كوسائل للتعبير عن المعاني وكأدوات لكشف كوامن النفوس ونتصور أن الحروف يمكن أن تقوم بذاتها كبدائل للمشاعر ويمكن أن تدل بصدق على ذواتنا ومكنوناتنا. والحقيقة أن الحروف تحجب ولا تكشف، وتضلل ولا تدلل، وتشوه ولا توضح، وهي أدوات التباس أكثر منها أدوات تحديد .. وللصمت المُفعَم بالشعور حُكم أقوى من حكم الكلمات، وله إشعاع وله قدرته الخاصة على الفعل والتأثير .. فما أبلغ الصمت، وما أقدره على التعبير".

ربما لم يقف المصرون على الصراخ على "حكمة الإنصات" التي حوتها تلك التجربة العميقة التي خاضها رجل أصيب بصمم لعدة أشهر، وعاد يحكي عن فوائد الصمت قائلا: "الصوت يفرض عليك حكاية، وهي دائما حكاية الآخر .. أما تجربة الصمت التي خضتها فهي أشبه بكوني يقظا في حلم أستطيع توجيهه"، أو يقرأون أي شيء عن "الأرامل الصامتات" حيث تصمت كل امرأة من إحدى القبائل الاسترالية الأصلية، سنتين كاملتين حين يموت زوجها، وكذلك أمه وحماته وبناته وأخواته، ويكون عليهن التواصل مع حولهن بالإشارة، اعتقادا منهن في أن هذا يساعد على التخلص من أرواح الأزواج الراحلين.

لقد كان الموسيقي الشهير جاري توملنسون يعتبر أن وصولنا إلى المعنى والقيمة هو مجرد لحظات من التوقف المؤقت في حوارنا الدائم مع الآخرين، والذي من خلاله ينبثق المعنى والقيمة دائما. وربما كان يقصد هنا أن التقاط المعاني العميقة والقيم الجوهرية يتهادي إلينا، أو يشرق في روؤسنا أحيانا، بعد أن نخلو إلى أنفسنا، عقب حوارات مستمرة مع الآخرين.

والتقط بعض الشعراء قدرة الصمت على تصوير الحال، رغم أنهم أقدر الناس على الرسم بالكلمات، حسب التعبير ذائع الصيت لنزار قباني، وهنا يقول أحدهم:
"عبثا نهرب..
من سعة الصمت إلى ضيق الكلام..
ثم نعلق بين فكرتين انقطع بينهما جسر المجاز".

فالشاعر هنا يرى في الصمت فسحة تضيق حين ننطق، وهو محق في هذا، فالكلام يقيد المعني السابح في رؤوسنا، لأنه لا يخرج على ألسنتنا بالكيفية التي يحضر بها في رؤوسنا أو مخيلاتنا. وهو محق أيضا حين يجعل من المجاز جسرا واصلا بين فكرتين، الأولى وقرت في الأذهان والوجدان صامتة، والثانية نطقنا بها كي نخرجها من صمتها، لكننا سنعجز عن تصويرها على الهيئة التي كانت فيها مكتملة جليلة مع الصمت الذي زعزعنا إقامته.

وتتجلي قيمة الصمت أكثر مع أشعار أخرى للشاعر أسامة بوعناني يرى فيها أن لغة الإشارة بالعين أكثر قدرة على التعبير عن حالات العشق من أي كلام ننطقه، وهنا يقول:

"يحلو الحديث حين يكون صامتا
بهمس العيون حروفهم تعجلُ
بلبتقة تصيح نظراتهم بلاغتا
من الوله ما فاق الحب تحمل".

ويأخذنا الشاعر خالد البار إلى ما هو أبعد، حين يجعلنا ندرك أن الصمت حاملا للرؤى، وليس عدما بأي حال من الأحوال، وهنا يقول:

"رؤىً للشمسِ ترسلهـا ضيـاءً
وما تحوي الرؤى يُبديه صمْـتُ".

لهذا لم يكن جبران يبالغ حين قال إن "منبر الإنسانية قلبها الصامت لا عقلها الثرثار"، فهذه المقولة ترفض الثرثرة الصاخبة التي نقوم بها، لاسيما على وسائل التواصل الاجتماعي، حول القضايا التي نتعاطف معها، دون شعور داخلي عميق بها، لأنه "بين منطوق لم يقصد ومقصود لم ينطق تضيع الكثير من المحبة".

لكن من الشعراء الذي رأى في صمت المجاز كآبة، لا بد أن نتغلب عليها كي نقبض على اللحظة الآتية، ونكسر حاجز الخرس والموت، كي يولد صبحنا من رحم ليل طويل. وهنا يقول الشاعر أحمد الرويعي:

"أغفو على فكرةِ الحلمِ
حتى أرى الصبحَ ينمو على صفحةِ اليتمِ
يخرجُ من لحظةِ الموتِ
فاللحظةُ الآن تكسرُ صمتَ المجازِ الكئيبِ
لتهربَ مني وتُمسكَ باللحظةِ الآتية".

ويبلغ الأمر مداه في مجال السياسة، حين يرى الشاعر أحمد مطر، أن الصمت موت، أو فيه موت محقق، وأن الصامت عما يجري حوله من استبداد وفساد، هو في حكم الميت، الذي لا يحسب المستبدون والفاسدون حسابه. وهنا يقول في صيغة حوارية:

- مات الفتى
- أى فتى ؟
- هذا الذى كان يعيش صامتا
وكان يدعو صمته أن يصمتا
وكان صمت صمته يصمت صمتا خافتا !
- مات متى ؟
- اليوم؟
- لا .. هذا الفتى عاش ومات ميت !".

وقد كان الجاحظ يرفض الكلام إن كان من باب الإسهاب والتكلف، والخطل والتزيد، لكنه يرى ضرورة أن يتحدث أرباب الكلام، ورؤساء أهل البيان، والمطبوعون المعاودون، وأصحاب التحصيل والمحاسبة، والتوقي والشفقة، والذين يكسبون في صلاح ذات البين وفي إطفاء ثائرة، أو في حمالة، أو على منبر جماعة، أو في عقد إملاك بين مسلم ومسلمة، فكيف يكون كلام هؤلاء يدعو إلى السلاطة والمراء، وإلى الهذر والبذاءة، وإلى النفج والرياء".

ويمضي الجاحظ قائلا: "كان أعرابي يجالس الشُعبي فيطيل الصمت. سئل عن طول صمته فقال: "اسمع فاعلم، واسكت فاسلم"، ثم يقول هو: "مقتل الرجل بين لحييه وفكيه"، و"ليس شيء أحلى بطول سجن من لسان".

وهناك من عبر عن هذا شعرا في قول:
"لسان المرء بنبئ عن حجاه .. وعي المرء يستره السكوت".

أو قول آخر:
"رأيت الكلام يزين الفتى .. والصمت خير لمن قد صمت
فكم من حروب تجر الحتوف .. ومن ناطق ود لو سكت".

وعبروا عنه نثرا أو في حكمة تقول: "إذا تمَّ العقل نقص الكلام" و"إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب". وأثني أحدهم علي فضيلة الصمت فقال: "هو زينة بدون حلية، وهيبة بدون سلطان، وحصن بدون حائط". لكن يظل هناك من يطلب الكلام بغية الدفاع عن الحق، وبذا يكوت "الصمت إمساك عن قول باطل دون الحق، لأن الذي لا يتكلم بالحق شيطان".
وفي كتابه ''الصمت كرياضة روحية'' يطرح المفكر الهندي سوامي برامانندا الصمت على أنه وسيلة تحقق السلام مع النفس، وعلاج من صخب الحياة، وشتات الروح، وانشطار الجسد، وهو لا يعني في نظره اعتزال الناس، وفقدان القدرة على الكلام، وتحرير عقولنا من التفكير وفرض حالة من الخواء الذهني والسلبية، إنما هو سكون العقل من القلق، والقلب من الهموم، والنفس من التوتر، والأعماق من الاضطراب، وهو يساعد على التآزر الجسدي والعقلي مع كل الملكات بحيث يصير كل جزء منها يؤدي وظيفته في انسجام تام مع كافة الأجزاء الأخرى، ويصبح تصرفنا الطبيعي عندما نستكين على شاطئ الحقيقة بعد أن نصل إليها مجهدين، وهنا يقول:

''النحلة، قبل أن تعثر على الزهرة وتتذوق الرحيق، تصدر طنيناً عالياً؛ لكنها في اللحظة التي تتذوقه، تصير مستغرقة، وتكف عن إصدار أي صوت. وهذا هو حالنا. قبل أن نجد الحقيقة، نجادل ونتعارك ونتحدى الآخرين الذين يختلفون معنا، لكننا حين نتصل اتصالاً وثيقاً بما هو أعمق، نصمت ولا نحاول أن نفرض آراءنا على الآخرين. إننا نحاول أن نعيش تلك الحقيقة بحذافيرها، وعندما نحياها بالفعل، فإنها، تبلغ الآخرين وتؤثر في حياتهم".

ويرى برامانندا أننا لا يمكننا أن نصغي للغة الروح إذا ما كانت آذاننا مملوءة بضجيج العالم وصخبه، فالصمت يعمل لعقولنا وأرواحنا ما يفعله النوم لأجسادنا وجهازنا العصبي، والصمت يعيننا على اختزان كم هائل من طاقة الحياة التي نبددها في الثرثرات غير الضرورية، ولذا فإن معظم الذين يتحدثون كثيراً هم أولئك الذين يفكرون بوضوح أقل، كما أنهم أقل استجماعاً لقواهم الحقيقية، ولذا فإن أي شخص قادر على الإنتاج هو شخص يعطي الصمت، الملازم للصبر، قيمة في حياته. ولهذا يتغزل برامانندا في الصمت منشدا: ''ما أعذب صوت الصمت. ما أرق ملمسه. ما أطيب شذاه. وما أجمل هيئته. فلتهدأ قليلاً كيما تتمكن روحي من أن ترى، وتحس، وتسمع، وتلمس ذاتها في مملكِة السلام المقدسة هذه''.