سجين يطالع كتاباً (أرشيف)
سجين يطالع كتاباً (أرشيف)
الإثنين 10 سبتمبر 2018 / 19:41

روايات السجون...شهوة الموت في العتمة

على بلاط العنبر رقم واحد كنا نجلس ونأكل وننام، وحين كان العسكري الواقف على البرج المقام داخل العنبر يصيح "خمسات" كنا نقرفص كالأرانب في مجموعات صغيرة، تضم كل منها خمسة معتقلين، لكي يتم عَدُنا، وكنا ننقص أو نزيد واحداً أو اثنين كل يوم، لكن عدد "ضيوف" العنبر رقم واحد ظل قريباً من المائة.

القمع المجتمعي أشد كثيراً من قمع الأنظمة، لأنه يحاصر الوعاة ويخنقهم خارج السجون، ولأنه يحول البلاد إلى زنازين ويرى في الجلادين الجدد تقاة ورعين

كان ذلك قبل اثنين وثلاثين عاماً في مركز توقيف مؤقت يمنح ضيوفه القادمين من زنازين الشرطة والأمن السياسي فترة نقاهة واسترخاء قبل أن يتم نقلهم إلى السجون بعد إدانتهم بتهم جنائية مدنية، أو شحنهم إلى الحدود حين تكون "جرائمهم" سياسية.

كان لكل "ضيف" من الجنائيين قصةٌ يرويها للنزلاء بتضخيم متعمد، ويُضفي عليها بطولةً فرديةً تجعل من اللص فارساً شهماً، وتحول المقامر إلى مغامر، وتلبس القواد رداء الفضيلة والشرف. وكانوا يستفيضون في الرواية التي تتغير تفاصيلها يوماً بعد آخر... لكنهم، كانوا يصدقون رواياتهم، ويثقون ببعضهم، بينما يتوجسون خيفةً وشكاً من "الضيوف" السياسيين الصامتين دائماً.

في العنبر رقم واحد، تعلمت فضيلة الصمت، وعرفت أن للحرية شكلاً آخر، لا يروق لي ولا أريده، واكتشفت من روايات البلاط الساخن أنني أنتمي حقاً إلى أقلية تخطئ كثيراً حين تدعي تمثيل الجماهير.

في سنوات لاحقة، حين صارت تجربة التوقيف مجرد بقعة سوداء صغيرة في الذاكرة، وحين نسيت، أو اخترت أن أنسى، تفاصيل التجربة ووجعها، عدت إلى عالم السجون من باب القراءة، ودخلت زنازين الروايات والتقيت بأبطالها على الورق... وكنت قد أيقنت حينها أن البطولة في الكتب فقط، لكن الزنازين قائمة ودائمة في حياة عربية لا شيء فيها أكثر واقعية من السجون.

أول ما قرأت كانت رواية مذهلة، لم أستطع تحديد مكان وقائعها المتخيلة، فاكتفيت باعتبارها عملاً إبداعياً عربياً يتجاوز حدود الدول. أحكي عن "شرق المتوسط" للروائي الراحل عبد الرحمن منيف، وأستعيد عذاب شخوصها، وخاصة "رجب" ذلك الكائن المنكسر الذي يُمكن أن يحمل أي اسم آخر في معجم أسماء العرب.

أذكر أنني قرأت الرواية كاملة في الليل، ونمت. وحين صحوت، كنت أشعر بآلام شديدة في قدميَ وكتفيَ وظهري. وظل طيف رجب يتراءى لي أياما طويلة. وأذكر أيضاً أنني كرهت "هدى" كثيراً قبل أن أعرف أنها موجودة في كل حي وفي كل شارع، وأن لكل منا هُداه.

ويبدو أن الروائي المبدع منيف شعر بالتقصير في وصف التعذيب في شرق المتوسط فكتب روايته الاستكمالية "الآن.. هنا.. شرق المتوسط مرة أخرى"، وكأنه أراد أن يُبلغنا بأن القمع توسع، وأن التعذيب تطور كثيراً، ليفوق الموت في مرارته، وليشيع شهوة الموت في النفوس.

حاولت البحث عن مشهد آخر فقرأت روايات أخرى كثيرة توثق يوميات السجون، وأذكر منها رواية "السجن" للمبدع السوري نبيل سليمان، و"القوقعة" للسوري مصطفى خليفة، و"شرف" للمصري صنع الله إبراهيم، و"الزنزانة رقم 10" للمغربي أحمد المرزوقي، و"تلك العتمة الباهرة" للمغربي الطاهر بن جلون، وقرأت شهادات متناثرة لمبدعين آخرين عاشوا تجربة السجن، فعرفت أن القمع متنوع كما اللهجات، وأن للبيئة أثرها على تطور فنون التعذيب.

كل هذه الأعمال حاولت توثيق تجربة قمع النظام للسياسي المعارض، لكن أحداً لم يتناول قمع المجتمع للمثقف الخارج عن النص، رغم كل ما حملته سنوات الظلام الأخيرة في بلاد العرب المجتاحة بطاعون الربيع.

كم هو موجع انكسار المثقف وانقلابه على ذاته الأصيلة، لينخرط في اللعبة، ويستبدل طليعيته بهامشية باهتة.

واقع الأمر أن القمع المجتمعي أشد كثيراً من قمع الأنظمة، لأنه يحاصر الوعاة ويخنقهم خارج السجون، ولأنه يُحول البلاد إلى زنازين، ويرى في الجلادين الجُدد تقاة ورعين.

لماذا لا نكتب عن قمع المرحلة؟

يبدو أن شهوة الموت عادت إلى الحياة.