عرض عسكري روسي (أرشيف)
عرض عسكري روسي (أرشيف)
الأربعاء 12 سبتمبر 2018 / 20:18

سياسات بوتين الحدودية

حين انتصر جوزيف ستالين على ليون تروتسكي، وانتصرت بالتالي نظرية "الاشتراكيّة في بلد واحد" على نظرية "الثورة الدائمة"، ترافق الانتصاران مع صعود فكرة "القلعة المحاصرة".

ليس من المبالغة القول إنّ فكرة "الحزام الواقي" تستولي على عقل بوتين بمثل ما استولت على عقل ستالين

والفكرة هذه، التي تضرب جذورها في سلوك بعض القياصرة، إنما تفترض الخارج عدواً متحمساً للانقضاض في أي لحظة، تماماً كما انقض بُعيد ثورة أكتوبر(تشرين الأول) 1917 البلشفية في موازاة الحرب الأهلية الدائرة حينذاك بين "الحمر" و"البيض".

لكن مع الحرب العالمية الثانية، وبفعل المقايضات والتفاهمات في يالطا، وبوتسدام، وطهران، كسرت "القلعة المحاصَرة" حصارها وباتت تملك حزاماً واقياً يلفها ويحميها: إنه ما عُرف لاحقاً ببلدان حلف وارسو، أو الكتلة الاشتراكية، التي أطلق عليها ونستون تشرشل تعبيره الشهير: "الستار الحديدي".

هكذا فإن "العمق الجغرافي"، الذي غرق فيه نابوليون عام 1815 وهتلر في أربعينات القرن الماضي، هو من ثوابت ما يسميه البعض "العقل الاستراتيجيّ الروسي". بموجب هذا "العقل"، تبعاً لبعض المحللين، يرجع تطرف معظم اليهود الروس في إسرائيل إلى فرضية جاؤوا بها من بلد المنشأ، تقول إن "الدول توسع أرضها ولا تتنازل عن أراضٍ في حوزتها".

بالطبع سيكون من المبالغة تشبيه فلاديمير بوتين بستالين، أو تشبيه ما يمكن فعله في يومنا هذا بما كان يمكن فعله عهدذاك.

مع هذا، ليس من المبالغة القول إن فكرة "الحزام الواقي" تستولي على عقل بوتين بمثل ما استولت على عقل ستالين. لكن إذا استثنينا احتلال شبه جزيرة القرم في النطاق المباشر لروسيا، فإن هذا الحزام يبدو اليوم محكوماً باعتبارات أخرى يتصدرها عامل الشعبوية.

صحيح أن التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا عام 2014 أرعب الجيران البولندي، والهنغاري، والتشيكي، لا سيما الأول الذي تحكمه بموسكو مخاوف الماضي العميقة، إلا أن الرهان يبقى ممكناً على توسيع الفجوة بين هذه البلدان والاتحاد الأوروبي. ذاك أن التاريخ كله يعلم الدرس التالي: إما أن تتحالف أوروبا الوسطى مع أوروبا الغربية ضد روسيا، أو أن تتحالف مع روسيا ضد أوروبا الغربية.

والراهن أن الحكومات الشعبوية اليوم في وسط القارة أقرب إيديولوجياً إلى بوتين منها إلى الديمقراطيات الليبرالية في أوروبا الغربية.

لكن فضلاً عن بلدان تابعة كبيلاروسيا، يتبدى أن المبدأ الأوّل الذي يحكم التوجّه الحدودي لموسكو اليوم إنّما يتناول العلاقة بالشرق والجنوب، أي بالصين وتركيا وإيران. وهنا يُسجل تقدم كبير لبوتين على ما كانه الاتحاد السوفياتي الذي ربطته علاقة تتفاوت بين العدائية والبرود مع الصين الماوية، وتركيا الأتاتوركية، وإيران الشاهنشاهية وإلى حدّ ما الخمينية.

فروسيا الآن تشارك الصين في تنفيذ أكبر المناورات العسكريّة منذ الحرب الباردة، وهي المناورات التي أطلقت عليها تسمية "فوستوك". وكما باتت صداقة بوتين والزعيم الصيني شي جين بينغ من ثوابت العلاقات الآسيوية، فقد دلت قمّة طهران الأخيرة عن مدى التقارب الاستراتيجي بين بوتين والرئيسين التركي والإيراني رجب طيب أردوغان، وحسن روحاني.

صحيح أن خلافات روسية تركية لا زالت قائمة في ما خص إدلب، لكن هذا لم يمنع المراقبين من الحديث عن رهان روسي فحواه توسيع الفجوة بين أنقرة وباقي حلف الأطلسي، ناتو، وربما طلاق الأولى من الثاني في آخر المطاف.

وعلى أي حال، فتردي العلاقات التركية الأميركية والوضع الاقتصادي السيئ لتركيا يضعفان قدرة أردوغان في التملص من صداقة روسيا. وهذا ما يصح أيضاً في إيران.