فيلسوف العلوم كارل بوير (أرشيف)
فيلسوف العلوم كارل بوير (أرشيف)
الأربعاء 12 سبتمبر 2018 / 20:28

دروب الحقيقة

في زمن العولمة أصبحت الحقيقة نُسخةً معدومة الأصل، العديد من النُسخ، تُمثّل كل واحدة، حقيقةً. ليست هناك حقائق زائفة، أو صادقة. لا نزاع بين حقائق متجاورة، عوالم متوازية، يغذيها سُكَّان الأرض، عبر وسائل اتصال فائقة السرعة. الحقيقة طبق مدعو له كل من هب ودب.

لكل نسخة من نُسخ الحقيقة، مريدون متعصبون. تعيش نسخة الحقيقة على الفيس بوك والتويتر واليوتيوب، يومين على الأكثر، ثم تختفي كأنها لم تكن، تُولد كبيرة، وتموت كبيرة

وباسم الحريات تُسمع جميع الأصوات، والأدق أن جميع الأصوات تنطلق في تزامن، غيمة من لغط الحقيقة. لكل نسخة من نُسخ الحقيقة، مريدون متعصبون. تعيش نسخة الحقيقة على فيس بوك وتويتر ويوتيوب، يومين على الأكثر، ثم تختفي كأنها لم تكن، تُولد كبيرة، وتموت كبيرة.

يسأل هيغل في كتابه "موسوعة العلوم الفلسفية"، عن الحقيقة، وهي كلمة كانت ولا تزال سامية ونبيلة، وسوف يظل البحث عن الحقيقة، يوقظ حماسة الإنسان، غير أننا قد نلتقي في الحال بالاعتراض الآتي: أنحن قادرون على معرفة الحقيقة؟ الإجابة تأتي من زمن العولمة: سيد هيغل أنت تتكلم عن الحقيقة التي تنبع من أصل واحد عريق.

إن بوستاً يُكتب على فيس بوك، موضوعه هل نأكل الكورن فليكس باللبن البارد أم باللبن الساخن، ينزل بالحقيقة إلى أرض الواقع، ينزل بها للتواضع الإنساني. الحقيقة تافهة يا سيد هيغل.

كان المدرسيون الكلاسيكيون يعرفون الحقيقة بأنها مُطابقة الفكر للواقع، لكن المُطابقة تستدعي أن أخرج من أفكاري حتى أستطيع مقارنتها من الخارج، وهذا مستحيل، وهذا أيضاً يُشكك في موضوعية أفكاري.

إن البحث عن الحقيقة كما البحث عن صخرة صلبة تحت رمال المظاهر. ديكارت يضع محتوى فكره في غربال الشك، ويعتقد أنه اكتشف في النهاية فكرةً تصمد أمام كل اختيار: أنا موجود. لكن هذه الحقيقة بدل أن تدعو حقائق أخرى للتشبه بها، تقع في نفس المشكلة، وتغوص أعمق في الذات، وتتطابق مع نفسها، ويبتعد عنها الواقع أكثر فأكثر.

يقول نيتشه في نص "إرادة القوة": الحد الأول لمذاق الحقيقة، أن كل ما لا يفيد الكائنات في المحافظة على الذات، ليس مهماً في شيء. العولمة: من فضلك هذا اعتداء صارخ على قيم الاستهلاك، يعني قصدك تقول إن سماعات أبل إللي من غير سلك، لا تفيد الكائن الحي؟ نيتشه: اخرسي يا سافلة.

تمر الحقيقة عبر المُحاولة والخطأ، والبحث عن الحقيقة لا يمكن أن يتم إلا عبر التيه والترحل. الحقائق القائمة على أساس متين في المجال النظري، لا تنفع ببصلة في التعامل مع الواقع.

ميشيل فوكو أول ما نزل أرض الواقع، انتصر للثورة الإيرانية الفاشية، اللهم إذا كان إغراء المال والمغامرة، وراء استعباط فوكو الرومانسي، وهنا قد ينتفي الخطأ، ويكون فوكو خان فقط معرفته النظرية.

العولمة: مش عارفة حاسة إنكوا مصعبين المسألة قوي، الحكاية بسيطة، الشاب من دول يشد شدة من قعر برطمان الكولة، ويقعد على الكيبورد، ويهبد الحقيقة في دقيقتين.

يبحث الممثل الكوميدي بيتر سيلرز، الشهير بالمفتش كلوزو، عن حقيقة القاتل في فيلم "طلقة في الظلام"، للمخرج بليك إدواردز 1964. يقول المفتش كلوزو لمساعده هركيول: الحقائق لا شيء غير الحقائق، بدون الحقائق يكون البحث الجنائي لعبة تخمين. الحقائق في هذه القضية. جثة السائق وُجدت في غرفة ماريا غامبريللي، حقيقة.

سبب الوفاة، أربع رصاصات في الصدر، حقيقة. ماريا غامبريللي وُجدت وسلاح القتل في يدها، حقيقة. الآن هركيول ما هو الاستنتاج الذي لا مفر منه؟ يرد هركيول: ماريا غامبريللي قتلت السائق. المفتش كلوزو يتبع حدسه وشعوره وتخمينه. ماريا غامبريللي الجميلة، بسحبة عيون القطة، التي أحبها من أول نظرة، لم تقتل السائق. المُفارقَة أن أكثر الحقائق جفافاً واستقامة، وهي الحقائق الجنائية، تستجيب في مسار فيلم "طلقة في الظلام"، لحدس وتخمين المفتش كلوزو.

لاحظ الفيلسوف كارل بوبر أنه عندما يقول الحقيقة، فهو في الواقع غير متأكد أن الأمر يتعلق بها، وذلك لأنه مُعرض للخطأ، وإذا أبعد قابلية الخطأ، فهو يُبعد الحقيقة ذاتها أيضاً.

فكرة الحقيقة مطلقة، وفكرة أننا لا نعرف شيئاً، فكرتان مترابطتان، فإذا لم تكن هناك حقيقة مطلقة، فإن كل ما أقوله إذن حقيقي. إننا لا يمكن أن نعي جهلنا إلا إزاء حقيقة مطلقة.