لوحة الأم ليوسف عبدلكي.(أرشيف)
لوحة الأم ليوسف عبدلكي.(أرشيف)
الإثنين 17 سبتمبر 2018 / 20:15

يوسف عبدلكي.. أشياء العزلة

محفورات يوسف الأولى ذات زمنين، الماضي وقد عاد حياً وحاضراً. الماضي وقد تكلم بلغة الحاضر بل ووقته. الماضي وقد رجع الى احتفالاته وأعياده وزينته وزخارفه

يوسف عبدلكي حفار متمكّن وقد ذهب إلى التصوير كحفار وعاد حفاراً. الحفر بكل تقنياته يجعل مسافة بين الحفار وبين المحفورة بين رأس الحفار وعمله. العمل في رأس الحفار لكن المحفورة تنقل مسودته أو تنقل نقشه أو تنقله في زمن متأخر عن زمنه، إنه في المحفورة كالوشم وكالنقش يغطي على ألوانه وعلى تردداته وعلى موعده ليقول ذلك من وراء النقش ومن وراء البناء، إنه موسوم بحبر الذاكرة، إنه الاشياء مع تاريخها ومع مقامها وإطارها. إنه راسخ في موضعه وفي شكله وفي بنائه وفي وقته. راسخ بل ماثل من وراء ذلك كله ومن عمق ذلك كله ومن آخر ذلك كله.

يوسف عبدلكي حفار لكنه لا يتلقى الحفر كوصية ثابتة. إنه يفعل في الحفر ما ليس للحفر. يلعب في الحفر ويجترح منه ما ليس في أصله وما يحاذر الحفارون أن يفعلوه في الحفر، ما يتجنبونه في الحفر. اذا كان الحفر يقبض على اللحظة ويؤخرها. اذا كان يجبر الذاكرة فإن يوسف عبد لكي كما كان الحال في أوائل محفوراته يضيف ذاكرة وزمناً الى محفوراته، فنشعر إزاء محفوراته الأولى أنها ذات ماض إضافي إنها تخرج من زمن طقوسي، أي أنها تخترع تاريخاً وتطل من احتفالات غابرة، أو أنها غابرة بدون ان تكون ممجدة، وبدون أن تكون آثاراً، إنها الماضي يلعب أمامنا ويعود حياً واحتفالياً، يعود مزيناً وزاهياً ولاعباً وراقصاً بل يعود مزخرفاً. محفورات يوسف الأولى ذات زمنين، الماضي وقد عاد حياً وحاضراً. الماضي وقد تكلم بلغة الحاضر بل ووقته. الماضي وقد رجع الى احتفالاته وأعياده وزينته وزخارفه.

إنه اليوم وهو يصل الينا من ماض بعيد. الزينة والزخرفة والواقع بلغة الحفر، اللعب بلغة الحفر والحركة والحكاية بلغة الحفر أيضاً. في محفورات يوسف عبدلكي الماضية كان هناك كلام كثير، كان هناك سحر اسطوري، كما كان هناك حشد وتفاصيل واحتفالية واضحة. ومن رأى محفوراته القديمة كان بالتأكيد يشعر بهذا السحر يحيط به. كانت المحفورة جواً ومناخاً وأسطورة وعالماً مبتكراً وجديداً بقدر ما يتكلم من عمق الذاكرة من لاوعينا التاريخي.
هذا ما كانه يوسف عبدلكي في أوائله، لكن ماذا فعلت السنون بعبدلكي، ماذا فعلت الإقامة الطويلة خارج بلده، ماذا فعل الزمن بمحفوراته، عاد الحفار القديم الى بلده ورأى هذا البلد يحترق ولم يفعل كما فعل كثيرون، بقي في بلده وبقي في عمله.

لن يكون جيداً أن نصل بين فن يوسف عبدلكي الجديد وبين المأساة السورية اليوم. هذا لا يعني البتة، أن هذه المأساة لم تؤثر في فن عبدلكي، لكن يعني أن بحثاً كهذا متعثّر وقلق ولم يكن في يوم سهلاً أو مضموناً أو غير ملتبس. الأفضل أن نستمر في قراءة مرجعها الأول وربما غايتها فن يوسف عبدلكي الجديد الذي أحسب أنه في تحوله سبق المأساة السورية وصادفها على الطريق وهي بدون شكل فعلت فيه لكن الوقت لم يحن بعد لتحري ذلك وتفصيله.

فن عبدلكي الجديد فن حفار بل أوغل في ذلك واقتصر عليه. عاد حفاراً بحتاً وابتعد المصور الذي جنح إليه في بعض سنوات غيابه. أعمال اليوم «بالأسود» وأعماله التي سبقت معرضه الأخير تذكر بعنوان مجموعة الشاعر فرانسيس بونج «الانحياز للأشياء» إنها على حد هذا العنوان الباهر الذي افتتح مدرسة في الشعر انحياز للأشياء. انحيازنا، فعندما يرسم عبدلكي سمكة لا تتوقع ان نجد غير سمكة وسط اللوحة المرسومة بالأسود وحده. إنها أشياء، أشياء فحسب، أغراض وحيوانات وأدوات من كل نوع. مبسوطة على اللوحة وسط فراغ تام، نوع من الرسم العاري المتخلص من كل إضافة، الزاهد التشيؤي. في ذلك يفوق عبدلكي في تشيؤه الفنانين الأميركيين او الفرنسيين الذين اكتفوا برسم العلم الأميركي أو نحت حذاء عملاق أو زرع عنزة محنطة وسط العمل فأعمالهم تظل تحتوي على إضافات فيما تكتفي لوحات عبدلكي بالشيء مجرداً ووحيداً وعارياً. أشياء يوسف عبدلكي متقلصة مقبوضة في الغالب مرصوصة في اللوحة. إنها أشياء ليست حرفية فحسب بل تبالغ في شيئيتها وفي عزلتها وفي حيادها. بل أن تلك العزلة والانفصال والحياد هي ميزاتها الفعلية. لنقل انها ليست اشياء فحسب بل هي معزولة صارمة وحيدة بكل ما في المعنى من كلمة إنها أشياء لكنها تحمل ثقل شيئيتها، أو أنها مطرودة منبوذة بسعي هذا التشيؤ.

 إنها اشياء لكن بالمعنى الغربي للكلمة. أشياء مع معاناة منسوبة للمبالغة في التشيؤ. اشياء لكنها توحي فقط بالفراغ والعزل والوحدة، إنها متصنّمة مهجورة سابحة في العدم في لا شيء يحيط بها وهو وحده إطارها. طبعاً نفكر هنا بالبوب آرت، البوب آرت في ضديته وتشيؤه وانفصاله. كلمة الانفصال هي الكلمة الأنسب لوصف أشياء يوسف عبدلكي التي تبدو وكأنها لا تنتمي إلى شيء وإلى وسط وإلى إطار لا تنتمي حتى إلى الفراغ نفسه.