الديبلوماسي الامريكي المخضرم هنري كيسنجر.(أرشيف)
الديبلوماسي الامريكي المخضرم هنري كيسنجر.(أرشيف)
الأربعاء 19 سبتمبر 2018 / 20:35

الصين اللغز

بعد أكثر من أربعة عقود على حديث هنري كيسنجر مع رئيس الوزراء الصيني، ما زالتْ الصين لغزاً كبيراً، هي بالفعل وصلتْ باقتصادها الجبَّار إلى ثاني أقوى اقتصاد في العالَم

في زيارة هنري كيسنجر الأولى إلى بكين عام 1971، وكان الهدف منها، القطف السريع لثمرة الخلاف الحاد بين الصين وروسيا، الاتحاد السوفييتي سابقاً، قال هنري الذي يرأس الوفد الأمريكي، لرئيس الوزراء الصيني حينئذ جو إنلاي: الصين أرض ألغاز. رد رئيس الوزراء الصيني: ستجدونها غير مُلغزة، بعد أن تتآلفوا معها، هناك تسع مئة مليون من الصينيين الذين يرونها طبيعية تماماً.

قصد هنري كيسنجر بالألغاز، أن الصين منعزلة، غامضة في نظر الغرب، ولا تجاري النظام العالمي الديموقراطي، فكيف لها أن تكون قوة عظمى؟ أجاب رئيس الوزراء الصيني بأن حجم الكتلة السكانية الهائلة، وهي كتلة استراتيجية، لا سيما إذا كانت كتلة فعَّالة على الصعيد الصناعي والتكنولوجي، يؤهل الصين، أو يُمكنها من حجز مقعد أمامي في الاقتصاد العالمي، والاقتصاد قوة أيضاً.

بعد أكثر من أربعة عقود على حديث هنري كيسنجر مع رئيس الوزراء الصيني، ما زالتْ الصين لغزاً كبيراً، هي بالفعل وصلتْ باقتصادها الجبَّار إلى ثاني أقوى اقتصاد في العالَم، بعد الولايات المتحدة الأمريكية، لكنها لم تفعل الكثير أمام نقد هنري كيسنجر الثاقب. بكلمات أخرى، كيف للصين أن تكون ثاني أقوى اقتصاد في العالَم، وهي تتردد كثيراً في خوض حروب مُباشرة، لحماية مقعد الاقتصاد الأمامي؟

ليس كافياً لبكين إجراء مناورات عسكرية في مياه بحر الصين الجنوبي، المُتَنَازع عليه مع الفيليبين وفيتنام وماليزيا، ومن وراء هذه الدول، وهي الأهم، الولايات المتحدة الأمريكية. لا بد لبكين من حروب صغيرة، لا بد من انتصار وحشي، انتصار من لحم ودم. كلما زاد صداع الاقتصاد الصيني في رأس أمريكا، كلما كانت الصين في حاجة ماسة إلى حروب حقيقية، حتى تقتنع أمريكا بمشاركة الصين لها في النفوذ العالَمي.

اهتمتْ وسائل الإعلام الأمريكي مثل السي أن أن، بأضخم مناورات عسكرية منذ الحرب الباردة، تجريها روسيا في شرق سيبيريا، تحت عنوان "فوستوك 2018". 36 ألف دبابة، 300 ألف جندي روسي، 1000 طائرة، وشاركتْ الصين لأول مرة في المناورات الروسية، ب 3000 جندي. على عكس وسائل الإعلام الأمريكي التي بالغتْ في خطورة تقارب الصين لروسيا، لو سألنا العجوز المخضرم هنري كيسنجر عن رأيه، لقال: هذه خطوة على حياء من الصين، ولا تتناسب الخطوة العسكرية الحيية، مع حجم الاقتصاد الصيني الكبير.

تطمح الصين في السيطرة الاقتصادية، ولعل طريق الحرير، أو حزام الطريق الصيني، هو الطبعة الحديثة من "الحُلم الأمريكي"، أو هو سور صين عظيم آخر، وقد امتدتْ جدرانه حول الأرض. من حق الأمريكيين أن يلتقطوا التناقض الأدبي الصارخ بين السور العازل، الحاجب، التوتاليتاري، وبين الحلم الأمريكي، الهوائي، الطلق، الفردي. لن تقبل أمريكا بحزام الطريق الصيني، لن تقبل زنْقة الحزام على كِرْشها الرِجْراج، وكِرْش أمريكا لا يتوقف عن التضخم.

يرصد هنري كيسنجر في كتابه "النظام العالَمي"، وبعنوان فرعي"تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ"، السبب الذي يساهم في توتير العلاقات الصينية الأمريكية. تعترض الصين على الرأي الذي يقول: إن النظام الدولي يتعزز بنشر الديموقراطية الليبرالية، وإن واجب الأسرة الدولية أن تحقق ذلك، وأن تجسد تصورها لحقوق الإنسان عبر تحرك دولي.

لم تنس الصين أنها أُجبرتْ أساساً على الانخراط في النظام الدولي، القائم بطريقة شديدة التناقض مع صورتها التاريخية لذاتها، أو مع قناعاتها التي تستطيع الآن أن تُصرِّح بها، مثل أن السيادة الوطنية القومية أهم بكثير من حقوق الإنسان، إلا أن أمريكا والدول الغربية الغنية، تنتهك سيادة البلدان الفقيرة، الضعيفة، بحجة حماية حقوق الإنسان، وحماية الديموقراطية، وحماية الحرية، والأمر في حقيقته لا يتعدى مصالح مادية لتلك الدول القوية الغنية.

يقترح العجوز الخبيث هنري كيسنجر بمواربة، أن الولايات المتحدة قد تستطيع أن تُعدِّل تطبيق آرائها حول حقوق الإنسان، وفقاً للأولويات الاستراتيجية، أي أن هنري ينصح أمريكا بأن تتنازل قليلاً، لمُشاركة الصين فيما هو أهم، وكأنّ هنري يُقر بأن أمريكا لم تعد المتصرف الأوحد في شؤون العالَم، لكنه أيضاً يُحذِّر الصين من أن أمريكا لن تستطيع، في ضوء تاريخها، التخلي الكلي عن مبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان.

الحل الوسط الذي يقترحه هنري كيسنجر بين الصين وأمريكا، على حصافته، وحكمته، قد يراه كثير من الأمريكيين بداية هزيمة، وبداية تآكل القوة الأمريكية، مُهيناً إلى حد ما. إذن الأمل الوحيد لأمريكا، هو افتعال واستنزاف الصين، وجرها إلى الحروب الصغيرة، في بحر الصين الجنوبي. وفي الحروب ما زالتْ أمريكا تملك القلب الأكثر جرأة، إلا إذا كانت للصين كلمة أخرى.