لوحة لجميل ملاعب (أرشيف)
لوحة لجميل ملاعب (أرشيف)
الإثنين 24 سبتمبر 2018 / 21:21

الكتابة بالرسم

عنوان المعرض «القدس» بيد أن ما يبقى من القدس في المعرض ليس سوى القبة الشعائرية التي تعادل كتابة إسم القدس

لوحات جميل ملاعب في معرضه الأخير المعنون "القدس" في صالة جانين ربيز ليست كعادة جميل من أسلوب واحد، لكن الطاغي على المعرض والأجد في أساليب ملاعب المتعددة أسلوب يفرش على مربعات أو أشباه مربعات واسعة نمنمة تضم مصغرات تملأ الرقعة بتشبيكات تتعالق من الأعلى إلى الأسفل، حيزاً فوق حيزٍ، في ما يشبه سطوراً متداخلة.

الشكل على هذا النحو هو عبارة عن ذبذبات مرسومة ملونة تتململ على الصفحة، وتحيلها إلى رقش مترجرج، إلى نوع من كتابة خطوطية يتداخل فيها اللون وتتداخل فيها أشكال طيور ومعمار وبشر، جميعها تندمج في هذه المعلقة الشاسعة. هناك أيضاً ستة مستطيلات مصفوفة جنب بعضها البعض كالأعمدة، ويسميها جميل المعلقات وهذه مرقشة بأشكال أشياء أكثر بروزاً وأكبر حجماً.

والأرجح أن الإسم "معلقات" يصح لكل اللوحات التي تشمل المعرض، عدا لوحتين تضمان نساء ورجالاً بألوانهم القرميدية وملابسهم الفولكلورية يذكرون بالفن المصري. اللوحات الغالبة على المعرض هي معلقات لأنها كتابة مرسومة، ولأنها تذكر بالفن الحروفي العربي بتعالق أشكاله وتشبيكها، وقد تذكر أيضاً بالزخرفة الإسلامية التي تزين السقوف والجدران، وقد تذكّر الصفحة المتموجة سطراً وراء سطر بلوحات بولوك أو توبي، لكنّ قربها من الكتابة يجعلها تختلف عن هذين.

عنوان المعرض "القدس" بيد أن ما يبقى من القدس في المعرض ليس سوى القبة الشعائرية التي تعادل كتابة إسم القدس. القبة الشعائرية واللون الذي يُظلل اللوحة والأشكال المشبكة على طول الصفحة وعرضها، ما يوحي من بعيد بمدينة مصورة من أعلى أو مدينة على الخارطة.

القباب الشعائرية ليست متميزة عن غيرها، إنها محشورة وسط الأشكال المشبكة، أللوحة الزهرية أو الصفراء، أو البنية، أو الزيتية، أو الزرقاء، تبدو تقريباً مضاءةً بالزهري، أو الأصفر، أو البني، أو الزيتي، أو الأزرق.

إنها سماء وما يتركب فيها من أشكال وخطوط يبدو من بعيد نجومها. لكننا نظل نحس أننا أمام كتابة، وأن اللوحة هي عبارة عن حروفية لا نعرف أصلها ولا نعرف نوعها. إنها كتابة مرسومة كالهيروغليفية، وأثر الكتابة في الناظرين إليها هو كأثر الكتابة قبل أن تغدو مقروءة وقبل أن نتميّز كلماتها، بل نحن هنا أمام كتابة بلغة لا نتميزها ولها مع ذلك، وبذلك، أسرارها والتاريخ المضمر فيها والتأثير الذي تملكه رسومها.

إذا وقفنا قبالة اللوحة الصفراء المعنونة "القدس" أو "أورشليم" نشعر مع ذلك أن القدس حاضرة على نحو ما طي اللون الأصفر وطي الأشكال المنقوشة عليه. إننا نرى ما فوق المعمار والساحات والمضائق والركام الحجري وغير الحجري.

نرى ذلك أو نستشعره أو نتملاه، وتظل المعالم تنحدر وتزداد جلاءً إلى أن نصل إلى أشخاص متشابكين وكأنهم في غمرة البناء. إنهم مرصوصون أو ممتدون الى جانب القبة الشعائرية. لا يكفي هذا ليكون القدس، لكن القدس في هذه القبة الشعائرية التي هي كتابة ثانية لاسمها.

القدس هي ما توحيه الكلمة وما تحملنا على استيحائه. ليس في الأمر سوى لعبة الإاستيحاء هذه لكنها مع ذلك تكفي الكتابة دون حروف ولا لغة واضحة، الكتابة بمفهوم الكتابة وبوحيها، الكتابة هي على هذا النحو كتابة فحسب. إنها اختراع لا يتخذ معناه ولا مساره ولا أبجديته إها من العنوان الذي وضع له. إذا عدنا إلى عنوان المعلقات بدت اللوحات تبعاً لذلك ما تعنيه المعلقات وما توحي به.

نعرف أن المعلقات هي في الشعر الجاهلي قصائد تُختار وتُنتقى وتُعلق على جدار الكعبة. أي أن المعلقات التي نختلف في عددها وفي شعرائها هي نصوص علقت على جدران المعبد القدسي ما قبل الإسلام، والأرجح أن هذه السماوية وتلك القدسية تغمران كتابتها ونصوصها وشكلها وطريقة عرضها وتقديمها فهي لم تسمّ المعلقات بلا سبب، ولا شك أن هذا الاسم يجعلها أقرب إلى المعبد والسماء.

ليس إسم "القدس" أو المعلقات سوى مانح هذه الكتابة المتراكبة المتراكمة المتشابكة طبيعتها. إنها كتابة بفضل هذه العناوين، كتابة بشكلها وصفحتها المربعة والرسوم الشعائرية المتعلقة فيها. كتابة شعائرية ومستغلقة أيضاً.