عين الحلوة كما رسمها ناجي العلي (أرشيف)
عين الحلوة كما رسمها ناجي العلي (أرشيف)
الثلاثاء 25 سبتمبر 2018 / 20:24

غريب في عين الحلوة

لا يمكنك مقاومة فكرة البحث عن أثر لناجي العلي حين تدخل مخيم "عين الحلوة"، ففي أكبر مخيمات لبنان للاجئين الفلسطينيين وأكثرها بؤساً، بدأ فنان الكاريكاتور الشهيد مسيرته، وكان المخيم أول محطات علاقته بغسان كنفاني، وخزان الإبداع الذي رافقه طوال حياته.

كأن الظاهرة التي شغلت الكون وتناولتها الدراسات والروايات والملاحم الشعرية وكتبت عنها المقالات واستلهمت منها المسرحيات وانتجت حولها الافلام لم توجد في يوم من الأيام

قبل أن تعبر سيارة التاكسي حاجز الجيش قلت للصديق محمد الصادق الذي رافقني في تلك الرحلة: "لا معنى لزيارة المخيم دون إلقاء نظرة على البيت والحي اللذين قدما لحركة الإبداع الانساني واحداً من صناع الابتسامة المعذبة على وجوه متعبة"، ولم يخل الأمر من إشارة إلى التفكير النقدي وتراجيدية الموت.

كانت هزة رأس الصادق وابتسامته مبهمتين لكنني تجاهلت غموضهما مدفوعاً برغبة التعرف على أكثر الأماكن حضوراً في تجربة صاحب الأيقونة "حنظلة" الذي راكم رمزيته من نمط حياة وسلسلة مواقف ودفاع عن الفكرة حتى اللحظة الأخيرة.

لم تكن ردود فعل أصحاب الدكاكين والمارة الذين سألناهم عن الحي والبيت أقل إبهاماً. ساد التردد في الكلام الموقف وتجاهل بعضهم ناجي أو قلل من أهمية البحث مشيراً إلى التغيرات التي حلت في المكان.

تحولت رغبة الوصول إلى عناد في مواجهة تلك الريبة، وواصلنا سيرنا في مسار تحدده إشارات الأصابع دون أن ندري أننا نتوغل في واحدة من مناطق نفوذ أصحاب التفكير الداعشي.

انتهى ذهول البحث بصدمة حين وجدنا أنفسنا وجهاً لوجه آمام "سوبرماركت " يعلوه مركز تمارين رياضية "جم" على طريقة المراكز التي تنتشر في المناطق العشوائية، وبعد الأسئلة علمنا ببيع البيت ورحيل الأهل وغياب الأثر، وكأن الظاهرة التي شغلت الكون وتناولتها الدراسات والروايات والملاحم الشعرية وكتبت عنها المقالات واستلهمت منها المسرحيات وأُنتجت حولها الأفلام لم توجد في يوم من الأيام.

تخيلت قبل وصولنا، طللاً يحمل بعض رسوماته أو صورةً باهتةً لحنظلة على عامود إنارة، وحديثًا عابراً مع بشرٍ ببعض ملامح ناجي العلي، ولم أتوقع متحفاً على هيئة ما أقيم لشاعر البلاط في رام الله، أو صورة المصارع الكبيرة التي تطل من نافذة الـ"جم" لكن الخيبة طالت الحد الأدنى من الخيال.

سيل لا ينقطع من الأسئلة تسلل بين طبقات الذهول والخيبة ونحن نغادر المخيم، بعضها حول الذاكرة التي ضاق بها المكان وحق الأجيال في معرفة الذي تنبأ بمستقبلها وأطلق صرخات التحذير من مآلاتها ونقل عذاباتها الى أرجاء المعمورة ودفع حياته ثمناً لانحيازاته، وآخر عن أهمية إبراز المنجز الإبداعي والحضاري لمجتمع اللاجئين الذي يتعامل معه العالم باعتباره زوائد بشرية، ولم يخل الأمر من اتهامات معلقة لمسؤولين مفترضين عن غياب مبدع بتلك القامة عن تربة إبداعه.

لعل أبرز الفوارق بين ناجي العلي والسياسيين، سواءً الذين يستخدومونه دون استيعاب حقيقي لظاهرته، أو يحاولون طمسه بعد نجاحه في تعريتهم، أنه حوّل آلام اللاجئين وجوعهم، لإيحاءات إبداع وبفعل التقاطاته بات روحاً عابرة للمكان فيما تعامل الآخرون مع المعاناة باعتبارها مادةً أولية لشعارات لا تحرر وطناً، ولا تسد رمقاً، وصاروا عبئاً على كل ما يلامسونه .