الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والسفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي (أرشيف)
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والسفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي (أرشيف)
الأربعاء 26 سبتمبر 2018 / 20:25

بعض أحوال عالمنا

من يتابع أجواء الأمم المتحدة اليوم، وخطابات قادة العالم من على منبرها، لا يفوته الانتباه إلى حجم التصدع الكوني القائم. وهذا ما يُظهر، مرة أخرى، كم كانت سطحية ومتسرعة تلك الآمال الضخمة التي انعقدت على نهاية النزاعات والانكباب على بناء "القرية الكونيّة الواحدة"، والتي انتشرت مع انتهاء الحرب الباردة، في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات.

بات واضحاً أنّ القائلين بالديمقراطيّة ينقسمون ما بين ديمقراطيّة انتخابيّة كالتي يدعو إليها الزعيم الهنغاريّ فيكتور أوربان وأخرى ليبراليّة كالتي يتمسّك بها الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون أو المستشارة الألمانيّة أنغيلا ميركل

فما كان، ولا زال، يحصل على المستوى التقني والاتصالي، بما فيه عيش العالم كله للمرة الأولى في التاريخ في زمن واحد، لا ينعكس على حيز السياسة وعلاقات الجماعات والدول في ما بينها. وقد يكون من الأصح القول إن انعكاسه السلبي يفوق انعكاسه الإيجابي بفعل ما ييسره التقدم التقني والاتصالي من انقشاع للتفاوت وانفجار للهويات. والحال أن هذه الوجهة هي التي كانت وراء تطوير النظرية القائلة بتلازم التطور الاتصالي العابر للدول والهويات الجماعاتية التي هي دون الدول.

على أن اللافت أيضاً مدى الاختلاف بين نزاعات يومنا هذا والنزاع الذي سبق أن شق العالم إبان حربه الباردة ما بين أوائل الخمسينات وأوائل السبعينات. ذاك أن الانقسام إلى كتلة شرقيّة "اشتراكية" وكتلة غربية رأسمالية وديمقراطية أخلى الساحة لانقسامات داخل الكتلتين السابقتين، بل داخل كل واحدة من الأفكار المتداولة حينذاك.

فوفقاً للرئيس الأمريكي دونالد ترامب في خطابه الأخير في الأمم المتحدة، تقف القومية والعولمة على طرفي نقيض، وبات واضحاً أن القائلين بالديمقراطية ينقسمون ما بين ديمقراطية كالتي يدعو إليها الزعيم الهنغاري فيكتور أوربان وأخرى ليبرالية كالتي يتمسّك بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أو المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.

وفيما تنقسم كتلة البلدان السوفياتيّة السابقة إلى عدد من الوطنيات الشعبوية الروسية، والبولندية، والهنغارية، المتضاربة إلى هذا الحد أو ذاك، فإن الحروب التجارية التي يمعن ترامب في إشعالها، والتي تجمع الصين إلى كندا والاتحاد الأوروبي إلى المكسيك، تطرح السؤال الحاد عن إمكانات التعايش بين العولمة الراسمالية والدولة القومية.

ومن الواضح اليوم أن المؤسسات والأُطر، العسكرية والسياسية والاقتصادية، التي نشأت إبان الحرب الباردة، أو بعد انتهائها، بات بعضها جزءاً من الماضي فيما البعض الآخر مُعرض للسحب في أي وقت من التداول. وربما كانت الحرب الأمريكية على الاتحاد الأوروبي أكبر وأخطر علامات التحول هذا.

حتى ثنائية شمال جنوب، التي نمت على هامش ثنائية شرق غرب، كفت هي أيضاً عن الاشتغال، ومعها انتهت تماماً صلاحية مفهوم "العالم الثالث". أما أسباب ذلك فكثيرة يتصدرها تعاظم النزاعات، بالدموي منها وغير الدموي، التي تشق هذا الجنوب.

وهذا، مأخوذاً بالمجمل، يفتح الباب على عالم من الفوضى والقلق، بحيث يستحيل حتى الاستقطاب على قاعدة كونية. وهو وضع يذكر البعض بالأجواء التي سبقت الحرب العالمية الأولى، والبعض الآخر بالأجواء التي سبقت الحرب الثانية. لكن المؤكد أن العالم يبدو الآن في حاجة غير مسبوقة إلى نظام جديد يبدد هذين القلق والفوضى ويضفي بعض المعنى على الوجهات السائدة التي باتت تفتقر كلياً إلى المعنى.

لكنْ لئن راهن البعض في أوقات سابقة على المؤسسات الأممية وعلى قدرتها على إنجاب النظام الجديد المأمول، فالمؤكد اليوم أن تلك المؤسّسات، بما فيها الأمم المتحدة نفسها، إنما تخوض معركة بقائها وزوالها، أو في الحد الأدنى، معركة فعاليتها المشكوك كثيراً فيها. وهذا سيء ومحزن للغاية.