ميشال شيحا
ميشال شيحا
السبت 29 سبتمبر 2018 / 19:39

نظرية لبنان

لم يكن تأسيس دول مما كان يدعى سوريا سهلاً. لم يتم فرز لبنان من سوريا بدون مساومات لم يرتضها السوريون الذين تأخر اعترافهم بالاستقلال اللبناني الى عهد قريب، الأمر نفسه أحاط بتشكيل شرق الأردن أما فلسطين فكان قيام اسرائيل فيها قلقاً شمل المنطقة وجعلها نهباً للحروب. من بين هذه الدول التي أنشئت كان لبنان استثناءاً لا في المنطقة وحدها بل في المشرق العربي كله، كان لبنان استثناء لأنه دون الدول العربية كلها كان متعدداً، لم يكن مسلماً خالصاً، هذا ما كوّن خصوصيته وجعله أقرب إلى نموذج، وأقامه دون سواه على أسس نظرية أخرى.

بوسعنا القول أن لبنان بهذا التعدد كان دون سواه بلداً ثقافياً، أن لا يكون بلداً مسلماً وأن يضم أقليات دينية وثقافية جعله هكذا. كان أيضاً بلداً أحيلت إليه اقليات المنطقة لتعيش في صراع شبه دائم، وليكون بذلك استثناء في المنطقة. وكان هو الأدرى بعلّة وجوده، يفهم أن هذا الالتباس في تأسيسه يتطلب تبريراً نظرياً ويكون بحد ذاته نظرية، لذا كان مقابل وجوده المتنازع ومن أجل هذا الوجود المتنازع، يُنشد بنياناً نظرياً لخصوصيته وتكوينه.

لعل المنظّر الأول لذلك كان ميشال شيحا رجل فذ كان في صفاته يشبه لبنان وهو الذي ينتمي الى واحدة من الأقليات الأكثر أقلوية "سريان"، ويجمع الى ذلك أن رئيس الجمهورية المؤسس كان صهره، كما يجمع أيضاً ما يبدو لبنانياً بحتاً فهو في الوقت ذاته رجل مال ورجل ثقافة ورجل سياسة. كان متموّلاً وصاحب بنك في الوقت الذي كان فيه مفكراً ومنظراً، الأمر الذي لم يحل دون أن يكون شاعراً. بنكي ومفكر وشاعر وسياسي بالطبع، ذلك ما جعله أيضاً كسياسي ثاقب النظر، فقد كان ملهم صهره رئيس الجمهورية لكنه لم يرض عن أمور كثيرة في عهده وكان آخرها اعتراضه على تجديد رئاسته، الأمر الذي فصل بينهما.

كان ميشال شيحا يحاول أن ينشىء نظرية تأسيسة للبنان وأن يجعل منه بذلك نموذجاً. لقد أدرك بحدس كبير ما ينتظر هذا البلد المتعدد بأقلياته، وحاول أن يرتب هذا الوضع بتناقضاته وملابساته الكثيرة. لقد وجد أن البلد الذي مرت عليه كل الغزوات بسبب موقعه يدين إلى أرضه التي وحدها تصبح أساساً. هذا الموقع يجعل لبنان وسطاً بين الشرق والغرب، كما يجعل منه مشرقياً بامتياز وغربياً بامتياز أيضاً.

لكن ميشال شيحا لم يغفل عن الخصوصيات اللبنانية، لذا صاغ نظرية لبنان الجبل والبحر. لبنان الجبل المنغلق المحافظ الطوائفي ولبنان البحر المنفتح التاجر المغامر اقتصادياً. نظرية لبنان الجبل والبحر وكلتاهما عضويتان وأساسيتان. لذا وجد ميشال شيحاً أن مجلس النواب هو ملتقى شيوخ الطوائف، ملتقى لبنان الجبل المحافظ. كان هذا لازماً للبنان لذا لم يحض ميشال شيحا على إهمال الجبل أو على إهمال مجلس النواب الذي سماه برلمان الطوائف. لم يرض ميشال شيحا بحجب برلمان الطوائف، وإن يكن شجع على إيجاد مقابله مؤسسات الدولة التي لا تخضع للاحتساب الطائفي، لكنه لم يقبل أن تتجاوز المؤسسات برلمان الطوائف أو تتحداها. كان ميشال شيحا حريصاً أن لا يشعر شيوخ الطوائف اللبنانية بالضيق او الإبعاد.

لا يبدو أن الوقت الذي مضى على رحيل ميشال شيحا والطبقة المؤسسة للاستقلال اللبناني غيّر كثيراً في الوضع اللبناني. حاول كميل شمعون ان يستلحق البرلمان وأن تطغى الدولة عليه فتسبب هذا بحرب أهلية لم تدم طويلاً. لكن انتقال المسلحين الفلسطينيين إلى لبنان نقل الصراع اللبناني الذي كان ميشال شيحا حريصاً على حصره في مجلس النواب، نقل هذا الصراع الى الشارع حيث انفجر في حرب أهلية أزهقت 150 ألفاً ودامت أكثر من عقد من السنين ولا تزال الى الآن دائرة بالألفاظ. أما الدولة التي حرص على أن تبقى مستقلة عن الصراع فصارت ساحته، وتحولت الى محاصصات وتقاسمات، أي أنها هي التي صارت عن قصد أو غير قصد برلمان الطوائف، في ما لم يعد البرلمان سوى ميدان صراع لقلة لا تزيد عن عدد أصابع اليد هي التي تجمع شيوخ الطوائف يتحركون من داخل البرلمان وغالباً من خارجه. لقد انهار مشروع بناء دولة على هامش الصراع الاجتماعي الطائفي إذ صارت المحطة الأولى لهذا الصراع، الأمر الذي يفسّر صعوبة انجازها بل وصعوبة احتسابها وجمع مؤسساتها. لقد صار حلم ميشال شيحا مثله في القبر.