فلسطينيون يتراجعون من قرب السياج الحدودي في غزة مع وصول دورية إسرائيلية.(أرشيف)
فلسطينيون يتراجعون من قرب السياج الحدودي في غزة مع وصول دورية إسرائيلية.(أرشيف)
الأحد 30 سبتمبر 2018 / 19:28

قرابين زهيدة الثمن على نار خفيفة

في سيطرة حماس على غزة ما يخدم هدفاً بعيد المدى في نظر الإسرائيليين، ولكنها تظل مشروطة بمدى التزام حماس بمعادلة الردع، أي الكف عن إطلاق صواريخ على مدن وبلدات إسرائيلية

قتل الإسرائيليون يوم أوّل أمس، الجمعة، على الحد الفاصل مع قطاع غزة، سبعة فلسطينيين، وجرحوا ما يزيد على خمسمائة آخرين، وامتلأت صفحات التواصل الاجتماعي بكلمات الرثاء، وصور وأسماء الشهداء. ولكن الأسماء والصور، لن تبقى محط اهتمام، أو في ذاكرة أحد، أكثر من أيام قليلة، ففي الجمعة القادمة سيقتل الإسرائيليون غيرهم، وتحتل مكانهم أسماء وصور جديدة، وكلمات رثاء مكررة ومُعادة، كما جرت العادة، في ما يُعرف بمسيرات العودة، منذ مارس (آذار) الماضي.

قتل الإسرائيليون، حتى الآن، ما يزيد على المائتين، أغلبهم دون سن العشرين، وجرحوا آلافاً غيرهم، في ما يبدو كحلقة مُفرغة في أفق سياسي مُغلق. فالعدد مُرشّح للزيادة مع نهاية كل أسبوع، والفجوة واسعة، بقدر ما يتعلّق الأمر بقطاع غزة، بين الإسرائيليين من جهة، وحماس التي تسيطر على غزة من جهة ثانية.

ومع ذلك، لا الحلقة المُفرغة، ولا الأفق المُغلق، أشياء ميتافيزيقية تستعصي على التفسير. فالهدف الاستراتيجي للإسرائيليين يتمثل في تكريس الفصل الجغرافي والسياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وخلق ظروف موضوعية لإلقاء "عبء" غزة، بالمعنى السياسي والاقتصادي والأمني، على عاتق مصر، أو اختزال، وتقزيم، مشروع دولة للفلسطينيين في غزة.

لذا، في سيطرة حماس على غزة ما يخدم هدفاً بعيد المدى في نظر الإسرائيليين، ولكنها تظل مشروطة بمدى التزام حماس بمعادلة الردع، أي الكف عن إطلاق صواريخ على مدن وبلدات إسرائيلية، ووقف تهريب السلاح، وبناء الأنفاق، وضبط حركة الفصائل المسلحة في غزة. والواقع أن سلسلة الحملات، والغارات، التي شنها الإسرائيليون على غزة منذ 2007 لم تستهدف إسقاط سلطة حماس، بل إرغامها على الالتزام بمعادلة الردع.

وبقدر ما يتعلّق الأمر بحماس، كان الاستيلاء على غزة، بالقوّة المسلحة، وطرد السلطة الفلسطينية منها، نعمة ونقمة في آن. نعمة لأنها استفردت بمنطقة جغرافية تضم قرابة مليونين من البشر. ونقمة لأنها استمدت شرعية الاستيلاء على غزة من دعوى مقاومة الاحتلال، وفساد السلطة الفلسطينية.

فشروط الردع الإسرائيلية، كما تجلت في سلسلة حملات عسكرية مُدمّرة، فرضت على حماس تناقضاً يستعصي على الحل ما بين الاستمرار في إطلاق صواريخ على إسرائيل من جهة، وضرورات الحفاظ على سلطتها في غزة من جهة ثانية. لم يصل الردع الإسرائيلي إلى حد دخول غزة، وإسقاط حماس، ولكن لا وجود لضمانة حقيقية بأن الإسرائيليين لن يفعلوا ذلك إذا تدهور الوضع أكثر مما يجب. ومع هذا وذاك، لم يعد تكبّد خسائر بشرية هائلة مقابل إطلاق صواريخ عديمة التأثير، مجدياً في نظر الكثير من مواطني غزة.

وعلى جانب آخر، أصبح لدى حماس ما تخشى عليه، أي السلطة نفسها، بما تعني من تراتبية اجتماعية وسياسية، وامتيازات، وسوء استغلال، وتجليات هذه الأشياء، وتراكماتها مع مرور الأيام، أثارت سخط وتذمّر المواطنين في غزة، وأفقدت كلاماً سابقاً لحماس عن فساد السلطة الفلسطينية صدقيته.
وهذه الوقائع والتجليات، معطوفة على دمار غير مسبوق لحق بالبنية التحتية نتيجة الحملات والغارات الإسرائيلية المتلاحقة، ووقوع خسائر بشرية كبيرة، وتفشي البطالة، وما يخلق الحصار من ضغوط نفسية واجتماعية، وضائقة اقتصادية، علاوة على الضائقة المالية التي عصفت بحماس في السنوات الأخيرة، تمثّل خلفية المشهد الذي تبلورت في ظله مسيرات العودة في آذار الماضي.

لم تنشأ فكرة تنظيم مسيرات العودة بمبادرة من حماس، ولكنها كانت سبّاقة في التقاط الدلالة السياسية والاجتماعية لمبادرة تمكنها من الإفلات من القيود الهائلة التي فرضها منطق الردع الإسرائيلي. ففي المسيرات ما يمكنها من نفي الكلام عن إسقاط خيار المقاومة، وفي المسيرات نفسها ما لا يمنح إسرائيل ذريعة شن حملات عسكرية واسعة النطاق، إذ يمكن القول، دائماً، إن المظاهرات مبادرات شعبية وسلمية، وأن حماس لا تطلق الصواريخ، وتمنع الآخرين من إطلاقها، وحتى ظاهرة الطائرات الورقية المشتعلة، التي أحرقت حقولاً للإسرائيليين، جرى الحد منها بعد تهديدات إسرائيلية.

ومن جانب آخر، أصبحت المسيرات، خاصة بعد ضمان استمرارها، وتحوّلها إلى تقليد في أيام الجمعة، أداة ضغط رباعية الأبعاد في يد حماس. فهي تمكنها من تحسين شروط التفاوض مع إسرائيل أولاً، ومن ممارسة الضغط على السلطة الفلسطينية، في موضوع شروط "المصالحة" ثانياً، وتمكنها من الضغط لانتزاع شرعية عربية ودولية تفتقر إليها، وتستميت في سبيل الحصول عليها ثالثاً، وتمكنها من التصدي لأصوات مُعارضة في غزة تصاعدت في الآونة الأخيرة رابعاً.

ولا ينبغي في كل تحليل محتمل التغاضي عن إدراك حماس لحقيقة أن انتزاع شرعية عربية ودولية، يحسّن شروطها على كل الجبهات الأخرى. ولا ينبغي، أيضاً، التغاضي عن حقيقة أن مسيرات العودة تفتح نافذة لحماس في أفق مُغلق، ودون مجازفات كبيرة من جانبها. لذا، يصح القول إن الضحايا الذين لا تبقى أسماؤهم وصورهم في وسائل التواصل الاجتماعي، والذاكرة، أكثر من أيام قليلة، ليمحوها غيرها، قرابين زهيدة الثمن على نار خفيفة.