فقراء ولكن سعداء.(أرشيف)
فقراء ولكن سعداء.(أرشيف)
الثلاثاء 2 أكتوبر 2018 / 19:14

بناءُ الإنسان …. عن طريق الهدم (4)

هدمُ الاستهلاكية وشهوة الامتلاك والحيازة = الاستغناء = البناء

هدم الاستهلاكية
في الأسابيع الماضية طرحتُ عليكم عدّة معادلات من معمل "البناء عن طريق الهدم”. وكانت كالتالي: (هدم الهدم- هدم الانهزامية- هدم القوالب الجاهزة). وأدرفتُ المعادلات بأمثلة تطبيقية لنماذج من بني الإنسان وبني الحيوان طبقّت تلك المعادلات وحصدت التفوّق. واليوم أحدّثكم عن المعادلة الرابعة التي تساعدنا على البناء.

هدم الاستهلاكية = استغناء = بناء
ليس أدلََّ على فضيلة "الاستغناء" في التاريخ من الأرملة الفقيرة التي طوّبها السيدُ المسيح عليه السلام لأنها جادت بـكلّ "ثروتها" لصندوق الهيكل؛ من أجل مساعدة الفقراء والمعوزين. وأما الثروة تلك فلم تكن إلا "فِلسين"، هي كل ما تملك من مال. وفي حين تقدّم الآخرون الموسرون الأغنياء بأموال كثيرة وجواهر لنيل بركة التصدّق على الفقير، إلا أن السيد المسيح بحكمته عليه السلام، قال إن تلك الفقيرة هي الأكرمُ والأجودُ، والأكثرُ منحًا من جميع الأثرياء الكرماء الجوّادين. كيف؟! لأنها أعطت من "أعوازها". والأعوازُ هي ما "نعوزه" أي نحتاجه بشدّة، لأننا نعيش منه، ودونه نموت.
 فكيف أمكن تلك الفقيرة مقاومة شهوة الاستهلاك في نفسها، حتى تستغني عمّا لا يمكن الاستغناء عنه؟ تلك مَلَكةٌ لا يمتلكها إلا الأقوياء ذوو البأس.

أما في عصرنا هذا فسوف أحكي لكم عن الست "مبسوطة"، من جنوب مصر. اسمها "مبسوطة"، وهي كلمة بالدارجة المصرية تعني: "سعيدة"، وهي بالفعل سعيدة، رغم المأساة الكبرى التي تحياها. ولكن قبل الست المبسوطة، دعوني أخبركم عن سيدة ثرية تمتلك عدة شاليهات وڤيلات في سواحل مصر الشمالية والشرقية، وتقطن في قصر بعشرات الملايين من الجنيهات، وتحفظُ ألماساتها وجواهرها في صناديق البنوك. كلمتني تلك السيدة تشكو القوانين المجحفة التي ظلمتها في الميراث من زوجها الثريّ الراحل ؛ وطلبت مني أن أعرض مشكلتها على الشاشة وأكتب عنها في مقالاتي.

أما "مبسوطة". فما أوفقَ الاسم على المُسمّى! تعيش في نجع ناءٍ من نجوع سمالوط. لديها خمسةُ أطفال مصابون بضمور كامل في المخ. عند بلوغهم الثانية عشرة من أعمارهم، لا يقوون على الحركة فيرقدون. لتبدأ مبسوطة رحلة "الشيل والحطّ" لأجساد أولادها حتى يتحمّموا أو يقضوا حوائجهم أو يتقلّبوا في نومهم هربًا من قروح الفراش. وحين يصل منهم الولد أو البنت إلى عمر السابعة عشر، يرحل في هدوء من هذه الأرض. زوجها "عم سعيد" كان طريح الفراش مصابًا بالفشل الكلوي؛ تقوم الست مبسوطة على خدمته ورعايته كما تفعل مع صغارها، حتى توفّاه الله قبل عامين. ابنها الأصغر مصابٌ بنفس مرض أشقائه، لكنه يستطيع التحرك بصعوبة وحده إلى الحمّام. فتقول عنه أمُّه بفخر: “أشكرك يا رب. صحيح لحمه متمزَّع من الوجعات، لكن بيقدر يروح المحلّ (الحمام)، أعتبره مش عيان.”


تلك المرأة الفقيرة لا تكاد تجد قوت يومها، لكن ابتسامةَ الرضا لا تفارقُ عينيها اللتين تُشعّان ببريق مدهش. والمدهشُ فعلاً أنها تتصدق من قروشها الضامرة في بيت الله للفقراء! أولئك من وصفهم الله بقوله: "تحسبهم أغنياءَ من التعفّف.” لهذا أحتفظ برقم هاتف الست مبسوطة على هاتفي تحت اسم "أغنى امرأة في مصر".

السيدةُ الثرية آنفة الذكر، لم تستطع مقاومة نزعة "الاستهلاكية"؛ ففقدت نعمة "الاستغناء"، فتهدّمت روحُها لأنها ستظل في حال دائمة من "الحاجة" والسؤال والشكوى. أما الست مبسوطة فقد "استغنت"، فغَنت؛ لأنها هدمت رذيلة الاستهلاك، فكانت الأغنى والأبنى والأسعد.
تلك هي معادلتي الرابعة: هدمُ الاستهلاكية وشهوة الامتلاك والحيازة = الاستغناء = البناء

المرة القادمة سأقدم لكم معادلة الهدم الأخيرة، التي تساعدنا على البناء.