الرئيسان الأمريكي دونالد ترامب والصيني شي جينبينغ.(أرشيف)
الرئيسان الأمريكي دونالد ترامب والصيني شي جينبينغ.(أرشيف)
الأربعاء 3 أكتوبر 2018 / 21:16

أنماط استقبال الصعود الصيني

بناء الجسور مع الصين بات لبلدان كثيرة مصدر اطمئنان: إمّا بسبب تراجع الاهتمام الأميركيّ بتلك البلدان، والمصحوب بتجنّب التورّط في شؤون العالم عموماً، وإمّا بسبب قدرات الاقتصاد الصينيّ، كمصدّر لعديد السلع

قبل أيّام قليلة تجاوزت آسيا والعالم خطر مواجهة عسكريّة كبرى بين الولايات المتّحدة الأمريكيّة والصين في مياه بحر الصين الجنوبيّ. لو حصلت المواجهة لكان العالم أمام احتمال تدميريّ يصعب تخيّله الآن. فمعروف أنّ واشنطن، ذات الحضور العسكريّ الكبير هناك، منحازة إلى حلفائها الآسيويّين الذين يرفضون مزاعم الصين التوسّعيّة في ما خصّ ملكيّة الجزر الواقعة في البحر المذكور. ومعروف أيضاً أنّ التوتّر هناك، معطوفاً على التوتّر الاقتصاديّ الذي أطلقته الحرب التجاريّة بين الاقتصادين الأوّل والثاني في العالم، قد يستجرّ عواقب غير محمودة بتاتاً.

والحال أنّ ما حصل ويحصل ينمّ عن شكل التكيّف، أو بالأحرى اللاتكيّف، الأمريكيّ في ظلّ إدارة دونالد ترامب، مع الصعود الصينيّ. هذا ما أمسى مكوّناً أساسيّاً من مكوّنات الترامبيّة ونظرتها إلى العالم المحيط، وليسوا قلّة أولئك المحلّلون الذين باتوا يربطون بين موقف الرئيس الأمريكيّ السلبيّ من الصين وانحيازه لزمن الخمسينات حين لم يكن ذاك العملاق الآسيويّ قوّة اقتصاديّة تُذكر.
  
لكنّ الواقع الدوليّ الراهن ينضح بأشكال أخرى عديدة من التكيّف مع هذا التحوّل الصينيّ الضخم. فحتّى بلدان آسيا نفسها، وهي التي تتخوّف من القوّة الصينيّة ومن مزاعمها في بسط الهيمنة الجغرافيّة، تحاول أن تضبط نزاعها مع بكين بحيث يبقى قابلاً للسيطرة عليه. أكثر من هذا، تتقدّم العلاقات الاقتصاديّة بين الصين وجيرانها الآسيويّين، من فيتنام إلى اليابان، بإيقاع إيجابيّ جدّاً، إيقاعٍ يكاد من يتابعه ينسى وجود الخلافات السياسيّة والاستراتيجيّة المعقّدة.

وبدورها فإنّ روسيا – فلاديمير بوتين تتصرّف وكأنّ العلاقة الحالية بالصين تستعيد ما كانت عليه في الخمسينات، بُعيد انتصار الثورة الصينيّة وقبل انفجار النزاع السوفياتيّ – الصينيّ في العهد الخروتشيفيّ. أمّا الفارق فهو أنّ الصين باتت هي الطرف الأقوى في هذه العلاقة بعدما كان الاتّحاد السوفياتيّ عهد ذاك هو هذا الطرف. ففضلاً عن العلاقات الاقتصاديّة والمبيعات العسكريّة، يتعامل الكرملين مع الصين بوصفها الضامن لأمانه من جهة الشرق، تمهيداً لتفرّغه لسياساته الغربيّة، سيّما وأنّها تحالفه، ولو بتفاوت في الدرجات، في معظم المسائل النزاعيّة مع الولايات المتّحدة وأوروبا، من أوكرانيا إلى سوريّا.

لكنّ أوروبا نفسها تتعامل مع الصين بصفتها الاحتياط الاقتصاديّ البديل عن الولايات المتّحدة، خصوصاً إذا أمعنت الأخيرة في توجّهاتها الحمائيّة أو الموصوفة بالانعزال. وما بين الابتعاد الأمريكيّ عن أوروبا والتهديد الروسيّ لها، تشكّل الصلة بالصين للأوروبيّين ضمانة سياسيّة وديبلوماسيّة على الأقلّ.

والحال أنّ بناء الجسور مع الصين بات لبلدان كثيرة مصدر اطمئنان: إمّا بسبب تراجع الاهتمام الأميركيّ بتلك البلدان، والمصحوب بتجنّب التورّط في شؤون العالم عموماً، وإمّا بسبب قدرات الاقتصاد الصينيّ، كمصدّر لعديد السلع، وكمستورد للطاقة، وكمنبع للتقنيّة الرخيصة. وقد يكفي هنا القول إنّ الصين باتت الشريك التجاريّ الأوّل لبلدان أفريقيا منظوراً إليها ككلّ واحد.

وهذا فضلاً عن تقديم بيجين نموذجاً يتشدّق به الكثيرون من زعماء "العالم الثالث" القوميّون والمناهضون للديمقراطيّة: إنّنا نستطيع أن نتقدّم، كما فعلت وتفعل الصين، من دون اعتناق الديمقراطيّة ومن دون التخلّي عن قيمنا التقليديّة والموروثة.

لكنّ السؤال الذي يبقى ماثلاً، وقد تزداد حرارته في المستقبل، كما قد تتعاظم المشكلات المترتّبة عليه: كيف التوفيق بين الاستقبالين المتناقضين الأميركيّ وغير الأميركيّ لهذا الحدث الكبير الذي يعاد صوغ العالم على أساسه؟