لوحة من المعرض.
لوحة من المعرض.
الخميس 4 أكتوبر 2018 / 20:42

بالسكين

ليس في لوحة تغريد غناء. حتى في الطبيعة لا نجد طبيعة، حتى في العصافير لا نجد غناء حتى في الثمار لا نجد لمعاناً وفاكهة

معرض تغريد دارغوث في غاليري صالح بركات التي إلى الآن عرضت بورتريهات لفنانين من كل الأجيال، ولأيمن بعلبكي الطالع وأسامة بعلبكي الواعد ومنى السعودي ومعرض استرجاعي لعبد الحميد بعلبكي. في صالة كهذه هي احتفاء وتكريم تبدو تغريد دارغوث مفاجأة، فالفنانة الثلاثينية لم تترسخ إلى الحد الذي تستحق معه هذه المفاجأة، لكن المعرض الذي يبدو هائجاً بالألوان الصارخة في توازن صاخب، المصنوعة بعنف وشبه عدوانية، وبنوع من القسوة شبه العضلية. المعرض هكذا يبدو أيضاً مفاجأة صالح بركات هذه المرة.

لا نستطيع أن نجد توازناً هادئاً في المعرض الذي يبث طوال الوقت، نوعاً من الفوضى الموزونة والانفجار اللوني، لكن ما تفعله تغريد دارغوث هو تعبيرية مبالغة. المعرض الذي يرسم جذوعاً وأشجاراً ولحماً وأسماكاً ودبابات، أشياء يمكن أن نطالها في الشارع، أن نجدها ميسورة مبذولة بسيطة ولا تملك الطاقة التي أضيفت اليها، الطاقة المتوترة والانفجارية. إننا نجد كل هذه الدينامية والتوتر والإلتفاف العضلي في جذع مكسور وحيد ولا يصحبه شيء في اللوحة، إنه موجود في اللوحة فحسب، إن قوته وتلافيفه وانتصابه وصلابته وحجمه ميزات لا نصدق أنها تنتمي إلى مملكة النبات الهشة، لا نصدق أنها نباتية حيث يختفي العنف والدم. إنها نباتات متوحشة متصلبة قاسية وعنيفة. صحيح نحن لا نرى الدماء، ولا نرى العضل ولا نرى العصب، لكن جميع ذلك ماثل في تلافيفها وفي مزيجها وفي تشابكاتها وفي قطعها وفي ألوانها العريضة وفي استداراتها والتواءاتها وفي الجحيم اللوني الذي يخرج منها.

بالسكين لا بالريشة بالسكين بكل ما بالسكين من معان. السكين المشحوذ الذي يمسح بمسحات عريضة على مسحات عريضة، مسحات مستقيمة أو ملتوية أو متقاطعة. بهذه السكين تروى الأغصان والأوراق والجذوع، مسحات عريضة بلون نافر بعجينة لونية مسحوبة على السطح. بالمسحات العريضة يستوي الجذع أرومة متخشبة ومكسورة، بالسكين نرى الجروح والخروق والثقوب والسطوح الخشنة والالتواءات في الجذع. بالسكين تغدو قطعة اللحم ناضحة باللون وبالعصارة، بالسكين تغدو الأسماك ناضحة بجلدها وبلونها وحتى برائحتها. بالسكين الذي يجعل من الأغصان ما يشبه البراكين، الذي يحول الجذوع الى ما يشبه اللهب. بالسكين نفسه نشعر بجسم الأشياء بجسم الجذع، بجسم الحيوان، لكن نشعر أكثر باللحم اللحم المقطوع والمكشوف والمروح، حتى المروح فإننا نكاد نتنفس الرائحة الصادرة عن الذبيحة. يمكنننا القول أننا الآن أمام الشيء في عز تشيؤه، أمام الجسد مقطعاً ومكشوفاً. لسنا أمام الروح، نحن أمام الكتلة أمام الخشب أمام اللحم أمام الجسد، أمام السكين وهي تقطع اللحم وتقص الخشب، أمام الجلد المتيبس. بوسعنا القول أن لوحة تغريد هي جسد بحت، من هنا ينشأ التشنج والقوة والعنف والالتفاف العضلي، إنها أجساد ورؤية جسدية، إنه اللحم والجسد لا الروح.

من هنا ليس في لوحة تغريد غناء. حتى في الطبيعة لا نجد طبيعة، حتى في العصافير لا نجد غناء حتى في الثمار لا نجد لمعاناً وفاكهة. ليس في لوحة تغريد غناء، الموسيقى التي تصدر عنها تصرّ صريراً وتصرخ وتهاجم. نرى الأغصان فلا نحس بجمال الأغصان. نجد الأشياء وقد تشيأت الى اقصى حد الاشياء العادية المبتذلة التي نراها نجدها زادت عادية وابتذالاً، بل نجدها مقطعة مبتورة. الأشياء التي تُستعار من الشارع لتغدو موضوعات فن، هذا ما يذكر بالبوب آرت لكن البوب ارت هنا تعرض لفن زاده ذبولاً وظلمة وتخشباً، بل أضاف اليه قسوة وهياجاً بركانياً وتقطعاً. اللوحة التي تضم قطع لحم معلقة هي من البوب آرت لكن لسنا أمام حيادية البوب وعاديته. إن اللحم هنا يجنح إلى تعبيرية قاسية، كما أن الجذع المقطوع يركز على فكرة البتر والغصن يكاد ينفجر في ذروته.