الممثل الراحل أحمد ذكي. (أرشيف)
الممثل الراحل أحمد ذكي. (أرشيف)
الجمعة 5 أكتوبر 2018 / 20:01

أنا أكذب ... أنا أتجمل!

يعود الفضل والسبق في تسليط الضوء وبعمق على ظاهرة الكذب والتجمل الاجتماعي للأديب الكبير إحسان عبد القدوس في روايته الشهيرة

عندما تتحول المظاهر إلى ثقافة عامة وتتطور إلى استجداء لكسب التقدير وصنع التقديس، عند هذا الحد يتحول الخداع والكذب الاجتماعي إلى "فضيلة "، ويتعدى مرحلة "الوسيلة" في الوصول إلى الغايات المراد الوصول إليها سواء أكانت مادية أو معنوية، وفي عالمنا المعاصر اتسعت مساحة "التجمل"، والتمثيل للدرجة التي لم يعد يُعرف فيها الممثل من "الكومبارس"، من الشخص الحقيقي.

من الحقائق التي يجهلها الكثيرون أن الأمراض النفسية هي أخطر بكثير من الأمراض العضوية والجسدية، وإذا ما دققنا في دراسة سلوك بعض الشخصيات التي يقال عنها إنها صانعة للقرار على مستوى العالم أو الشخصيات العامة أو تلك العادية التي تشبهنا ونشبهها، سنجد أنها تعاني بصورة أو بأخرى من عقد نفسية عميقة، في الأغلب هي لا تدركها، وإن أبلغها الناصحون والمقربون لها بتلك العقد فإما أن يتحول "الناصح" وفوراً إلى عدو لدود، أو يتحول إلى حالة غير مرغوب فيها بحيث يبذل "المريض النفسي" جهداً استثنائياً في سعيه إلى إلغاء وجود "الخصم المفترض"، وفي الأغلب يلجأ إلى أسهل طرق الإلغاء من خلال تشويه صورته واغتيال شخصيته.

تصديت لهذا الموضوع الخطير بالكتابة بعد أن عايشت وتعاملت مع بعض الشخصيات التي تحاول نكران واقعها المجتمعي أو الثقافي أو المادي أو مستواها الحضاري، ووجدت أن أغلب تلك الشخصيات تستسهل الذهاب نحو "خداع ذاتها"، أو اللجوء لبعض المظاهر لخداع الآخرين للهروب من واقعها.

قبل فترة التقيت شخصاً أعرفه منذ زمن بعيد وثقافته ومعرفته الأكاديمية متواضعتين، وكانت المفاجأة انه كان قد تسلم موقعاً مهماً، وعندما سألته وخلال جلسة خاصة عن سرّ حصوله على هذا الموقع مع غياب إمكاناته وهو يعلم تماماً معرفتي بحقيقة ثقافته ومستوى تعليمه، أجابني وفوراً في دفاع عن ذاته قائلاً: "وهل لو تسلمه غيري لكان الوضع أفضل أو لكان الموقع أكثر نجاحاً، أنا أمتلك شبكة علاقات تعادل أعلى الشهادات وتتساوى مع الخبرات المطلوبة للمنصب".

هذا الشخص بدأ فور تسلمه منصبه لا يخرج للناس إلا بارتداء بدلة رسمية، ولا يدخن إلا الأنواع الفاخرة من السيجار، رغم جهله المضحك بطريقة تدخينه وطقوسها، حيث أحاله هذا الجهل في التعامل مع السيجار الكوبي إلى مادة للضحك والتندر.

في عالمنا العربي يوجد الملايين من أمثال صاحبنا الذين يختبئون وراء البدلة والسيجار وتلك العطور ذات الروائح النفاذة والمستفزة للمزاج والذوق العام، وساهمت ظاهرة التجمل والقبول بها بنشوء سلوك اجتماعي "يُجرم" التواضع ولا يتقبل الفقير أو المتواضع مادياً ويرى في الاختلاط بالفقراء نوعاً من أنواع الاهانة أو فقدان "الهيبة الاجتماعية".

يعود الفضل والسبق في تسليط الضوء وبعمق على ظاهرة الكذب والتجمل الاجتماعي للأديب الكبير إحسان عبد القدوس في روايته الشهيرة "أنا لا أكذب ولكني أتجمل" والتي صوّرت فيلماً في عام 1981 وحقق نجاحاً كبيراً، وأسند دور البطولة فيه للمرحوم المبدع أحمد زكي وشاركته البطولة آثار الحكيم، والرواية والفيلم معروفان لجيل الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي وملخص الرواية أو الفيلم أن الحب لا يستطيع الصمود في وجه الفقر والطبقية حتى وإن حملها قلب شخص ناجح ومتفوق. ففي الفيلم انتصرت قوانين المجتمع غير العادلة على الحب والعشق، فآثار الحكيم استسلمت في النهاية لتلك الثقافة وللقوانين المجتمعية السائدة ورمت مشاعرها خلف ظهرها ورفضت الاستمرار في علاقتها مع أحمد زكي هذا الطالب المتفوق بسبب فقره الذي أرغمه على التجمل لكي يحظى بها.