تعبيرية.(أرشيف)
تعبيرية.(أرشيف)
الجمعة 12 أكتوبر 2018 / 19:54

لغة الأعداء

يا لسخرية القدر في أن تصبح لغة المستعمر القديم -ذلك الذي عبث بوطنك 86 عاماً، ونهب خيراته، وجرّد ملوكه من هيبتهم- ملجأ آمناً لك، يحتويك ويفهمك ويتقبّلك

يقول التاريخ إنه حين هيمن الخمير الحمر الشيوعيون على كمبوديا في السبعينات، سعوا إلى أن يطمسوا كل شيء ويعيدوا تشكيله وفقاً لأيديولوجيتهم المتطرفة، وذلك يشمل –بالطبع- اللغة. حتى أن الطفل صار يُشجع على مناداة والده بلقب "رفيق"، وهو ما يجعلني كإماراتية أفقد السيطرة على ضحكتي الساخرة، إذ إن "رفيق" هو اللقب الذي اعتدنا على استخدامه لمناداة العُمّال الآسيويين. عفواً، أعني البلوريتاريا.

كتبت الناجية تشانريتي هيم في مذكراتها أنه خلال تلك السنوات العجاف التي عصفت بطفولتها وبراءتها، صار التحدث بالقليل من اللغة الفرنسية التي تعلّمتها في المدرسة سراً لذيذاً يوهمها بامتلاك القليل من الحرية، فجنود الخمير الحمر –الذين كانت الغالبية العظمى منهم من سكّان القرى قليلي الحظ من التعليم-، لم يكونوا يفهمون الفرنسية ليحشروا أنوفهم فيما تتحدث به.

يا لسخرية القدر في أن تصبح لغة المستعمر القديم -ذلك الذي عبث بوطنك 86 عاماً، ونهب خيراته، وجرّد ملوكه من هيبتهم- ملجأ آمناً لك، يحتويك ويفهمك ويتقبّلك، أكثر من بني جلدتك وشركائك في الأرض.

تذكّرت هذه المفارقة العجيبة حين سألني مغرد حائر لماذا أجنح أحياناً إلى التعبير باللغة الإنغليزية على غرار الكثير من أبناء جيلي، وذلك على الرغم من أننا نذيع أفكارنا أمام متابعين أغلبهم من العرب.

ولم أجد له حينها جواباً مقنعاً، "لا بالعربي ولا بالإنجليزي".
ولكن بعد طول تفكير، بات من الآمن الجزم بأن الكثير منا في حالة هروب، حتى وإن كانت إلى لغة مستعمر لم يحترمنا سوى لسواد نفطنا.
نكتب بالإنغليزية، نغرّد بها، نهرّج، نشتم، نعترف، نتخطى حدود "العيب والمنقود"، نتغزل بالجميلين والجميلات، نتذمر، نتشاءم، نغمز ونلمز، ننتقد بعضنا بعضاً، نصارح مجتمعاتنا بعيوبها، نسرد مخاوفنا العميقة، نبث أفكارنا السوداوية إلى الفضاء الافتراضي.
  
إننا نظهر –ولو بلغة إنغليزية متواضعة- ذلك الإنسان الحقيقي في داخلنا، عوضاً عن أن نلتزم بصياغة جميع تدويناتنا لتشابه البيانات الرسمية في رصانتها وجديتها.

وما دمنا لا نكتب "بلغتهم"، ونستعير "لهجاتهم"، ونتحدث "بالنيابة عن مجتمعاتهم" –كما يخال لهم-، فإن هنالك فئة من هواة التحكّم والسيطرة والوصاية الذين لا يشعرون بالحاجة إلى أن يقفزوا –وليس بالضرورة لعدم فهمهم للغات الأجنبية- ليحاسبونا على ما نقول، والطريقة التي نقوله بها، وأي صورة يوطوبية مثالية للمجتمع علينا أن نراعيها حين نعبّر عن أنفسنا.

صار التدوين باللغة الإنغليزية –على الرغم من أنها من أكثر لغات العالم انتشاراً- خياراً أكثر أمانا لمن لا يرغب في أن يُصلب على خشبة "سمعة المجتمع"، أو عاداته وتقاليده، أو إدمان بعض أفراده على التكفير والتبديع والتخوين.

يبدو لهم لوهلة بأننا مشغولون بلعبة أخرى ذات قواعد مختلفة، فيدعوننا وشأننا، على الرغم من أننا نتشارك ذات الساحة الافتراضية الواسعة، ونحاول أن نصيب ذات الأهداف.

وهذه- لعمري- هي الغربة المصغّرة!