السبت 13 أكتوبر 2018 / 20:07

ليلة القبض على شريفة

صرّح أحد المسؤولين القطريين ذات مرة بأنه يعتبر إيران "دولة شريفة". نعم، هي نفسها إيران التي ساهمت في دمار نصف العالم العربي، ويبدو أن المسؤولين في قطر يقيسون شرف الفرد والجماعة بمقدار ما يلحقه من أضرار وتدمير. شريفة أخرى، هي قناة الجزيرة، انطلقت مشعلة العالم كله في معركة وجودية كبرى، بدعواها أن حكومة المملكة العربية السعودية قد أدارت ظهرها لكل تاريخها الدبلوماسي العريق وقامت بقتل كاتب صحفي هو الزميل جمال خاشقجي في قنصليتها بإسطنبول. هذا غريب جداً، لأن أي نظام سياسي، إذا رغب في تصفية معارض فإنه حتماُ لن يقتله في قنصلية بلده، وبالذات في هذه الحالة، فعصابات المافيا متغلغلة في كثير من شوارع إسطنبول ومعهم قوائم "منيو الإرهابيين" من كل مذهب، ويمكن تكليف واحد منهم أو اثنين للقيام بهذه المهمة في أحد شوارع "تقسيم" المظلمة أو أزقتها الضيقة مقابل حفنة من الدولارات على طريقة كلينت إيستوود، ولا يحتاج الأمر لإرسال 15 ضابطاً من النخبة للقيام بهذه المهمة السهلة إجرائياً، إذ من أسهل الأشياء أن يموت الإنسان في إسطنبول.

رغم ما في قصة الجزيرة من جنون إلا أنها تبنتها بحماس ورمت بنفسها في قلب معركة جديدة زاعمة أن خاشقجي قد قتل وتم تقطيعه إلى قطع صغيرة وإرساله إلى السعودية! الجزيرة تعيش في هذه الأيام ظروفاً صعبة، هذا ظاهر، ولذلك راهنت بأسماء كل إعلامييها، ابتداء من فيصل قاسم الذي كان أول من غرد عبر وسائل التواصل معلناً عن مقتل خاشقجي، لتتبعه بعد ذلك بقية الجوقة. عشرات الأسماء في قناة الجزيرة تعلن عن مقتل صحفي مشهور قبل أن تتكلم الحكومة التي قُتل على أرضها، وبين عشية وضحاها يحذف طاقم قناة الجزيرة كل تغريداتهم عن مقتل خاشقجي، ليستبدلوها بعبارة "اختفاء". هذا أيضاً في منتهى الغرابة ويبدو أنه قد أوحي إليهم بنسخ التعليمات الأولى، فأعطى ذلك أملاً في أن يكون الزميل لا زال على قيد الحياة،  وإن كان سير القصة إلى الآن لا يدعم هذا.

كل من عمل في مجال الصحافة والإعلام عليه واجب، إن كان شريفاً حقاً، واجب توعية الناس وتثقيفهم في هذا المجال الحيوي الخطير. عموم الناس يقعون بسهولة ضحايا لأكاذيب الإعلام الرخيص الذي لا يحترم نفسه، ولو أننا تبنينا حملة توعوية تنشر طريقة تمحيص الأخبار، لاختصرنا قصصاً ذات ذيول. دعونا نستخدم هذه الحادثة كأنموذج لما نريد مناقشته وطرحه أمام القارئ العربي ألا وهو السؤال: عن المصدر ومصدر المصدر حتى الوصول في النهاية إلى السبب الأول.

في 2 أكتوبر 2018 خرجت قصة جمال والقنصلية السعودية، من هو مصدرها؟ مصدرها المباشر قناة الجزيرة. هل كان هناك أحد من فريق قناة الجزيرة في القنصلية؟ لا، وإنما تواصلت قناة الجزيرة مع امرأة تدعى خديجة جنكيز لا يعرفها أحد من أسرة خاشقجي، قالت إن جمال دخل القنصلية ولم يخرج. حسناً، من أين أتت قناة الجزيرة بكل تلك التفاصيل التالية التي أمطرتنا بها في كل الأيام الماضية من تقطيع الكاتب لقطع صغيرة ووضعه في حقائب ونقله للسعودية، إلخ؟! ثم خرجت بعد ثلاثة أيام قصة إرسال رجال الأمن في إجازة، رغم أن السيدة خديجة قد صرحت في اليوم الأول بأنها سألت الأمن التركي عن جمال بعدما تأخره في الخروج من القنصلية! وكأن هذا لا يكفي، فخرجت قصة أشد غرابة من الكل، عن 15 ضابطاً من النخبة السعودية جاءوا ليقتلوا هذا الكاتب الأعزل رغم أن عدداً كبيراً مثل هذا سيثير شبهات الأمن التركي، بل الأجهزة الأمنية في العالم كله. هذه القصة استخدمها المغردون السعوديون ممن يدافعون عن وطنهم بلا مقابل، للسخرية من قناة الجزيرة وأكاذيبها بترديد أغنية سامي كلارك القديمة "خمسة عشر رجلاً ماتوا من أجل صندوق" وحسناً فعلوا.

لقد استخدمت الجزيرة أساليب قد تنطلي على عامة الناس لكنها لا تنطلي على من عمل في المطبخ الصحفي، وسأسوق لذلك أمثلة لا تهدف إلى احتواء كل الألاعيب التي مورست. مثلاً، عندما تنسب إلى وكالة رويتر أو إلى المخابرات البريطانية خبراً مفاده أن سعودياً اتصل بالوكالة وزعم إن خاشقجي بالسعودية, فهي لا تصوغ الخبر بهذه الصورة، ولا تقول إن المتصل هو غانم الدوسري أو أحد جنود سعد الفقيه، بل تصوغ الخبر وكأن الذي صرّح بهذا هي وكالة رويتر أو المخابرات البريطانية نفسها، هذا تلاعب مكشوف تكرر كثيراً هذا الأسبوع.

أمر آخر، أن الجزيرة التي لم تكن في قلب الحدث، تُحيل كثيراً إلى "مصادر تركية" و"صحف تركية" معتمدة في ذلك على جهل جمهورها وثقته بها، رغم أن العالم العربي كله قد ضاق بأخبارها وأصبح يتشكك في كل حرف تقوله. مثل هذه الإحالة غير مقبولة في مثل هذه الظروف، لا بد من تسمية المصادر التركية حتى يعرف العالم حجم هذا المسئول الذي صرح بمثل هذه الاتهامات الخطيرة، ويجب أن يعرف العالم أسماء الصحف التي تنقل عنها، حتى يرى العالم هل هي صحف محترمة أم أنها صحف فضائحية رخيصة "تابلويد". من عجائب الصدف، أن الجزيرة قد عرضت برنامجاً منذ أيام عن صحافة التابلويد في بريطانيا، وكان مقدم البرنامج يتحدث عن الديلي ميل ويقول إنها "وإن كانت تقدم لمتابعيها المتعة والتشويق، إلا أن كل أخبارها مشكوك فيها ولا يمكن الثقة فيها بحال". المضحك في الأمر أن من أعدوا هذا البرنامج لم ينتبهوا إلى أن هذا الوصف ينطبق تماماً على قناة الجزيرة.

رواية الجزيرة عن اختفاء جمال شديدة الارتباك. لذلك لا بد أن نعود لنطرح ونكرر سؤال المصدر: من هو مصدر كل هذه القصص الغريبة التي تناولها مرتزقة يوتيوب وإعلاميو الإخوان المسلمين وكأنها حقائق ثابتة. يجب على كل متحدث أن يجيب عن هذا السؤال: ما هو مصدرك؟ ولا بد أن يكون المصدر بنفس وزن الخبر، فالخبر الثقيل لا يقبل أن يحمله مصدر خفيف.

هذا المصدر لم يظهر، ليس هناك سوى قناة الجزيرة ومن ورائها الأجهزة الأمنية القطرية. ولذلك، على الأقل بالنسبة لي، فالمسؤول عن اختفاء جمال هو النظام القطري الذي يدير قناة الجزيرة ويربكها بتحركاته السريعة المهووسة، ومن ورائهم المخابرات التركية. لا يوجد غيرهما بالبال يصلح لأن يكون مصدراً للأخبار التي ترددها الجزيرة كل يوم، رغم ما فيها من تناقض ظاهر، ولقد سقطت قناة الجزيرة سقوطاً مدوياً عندما لم تحرص على تماسك قصتها وصارت أمام كل عين فاحصة مجرد صدى للمخابرات التركية والقطرية اللتان تعلمان جيداً مصير الزميل جمال خاشقجي وتعلمان جيداً أن السعودية هي آخر من يمكن أن يكون مسؤولاً عن مقتله.