تظاهرة برلين المناهضة للعنصرية.(أرشيف)
تظاهرة برلين المناهضة للعنصرية.(أرشيف)
الأحد 14 أكتوبر 2018 / 19:13

امتياز شخصي ومظاهرة في برلين

تثير مخاطر التطرّف القومي في ألمانيا، وتفشي خطاب الكراهية، سواء تخفّت وراء قناع التحذير من مخاطر الهجرة، أو كراهية المسلمين، الكثير من الذكريات المريرة والمُفزعة في ذاكرة الغالبية العظمى من المواطنين الألمان

أشعرُ بامتياز شخصي لأنني شهدتُ يوم أمس السبت، وشاركت في مظاهرة برلين المُناهضة للعنصرية، وخطاب الكراهية. توقّعت مصادر إعلامية وسياسية ألمانية مختلفة، قبل أيام، احتساب أعداد المشاركين "بعشرات الآلاف"، وحتى قبيل انطلاق المظاهرة بقليل لم ترفع التوقّعات العدد إلى أكثر من "أربعين ألفاً" من المتظاهرين المُحتملين. ولكن المفاجأة السارّة أن عدد المشاركين في نهاية اليوم أصبح يُحسب بمئات الألاف، لا بالعشرات، وأن مظاهرة من هذا النوع كانت الأكبر في برلين منذ ثمانينيات القرن الماضي.

شارك قرابة ربع مليون شخص في التظاهرة التي بدأت في أواسط النهار في الكسندر بلاتس، وهي من الساحات التاريخية والكبرى في العاصمة برلين، وثمة رواية ذائعة الصيت في الأدب الألماني على اسم الساحة المذكورة.

وكانت الشرطة قد أوقفت وسائط النقل العام في عدد من الشوارع الرئيسة، والفرعية، في العاصمة لتمكين المتظاهرين من الوصول إلى مكان التجمّع، وعلى امتداد الطريق الواصلة إلى ساحة النجمة الكبيرة، غروسر شتيرن، وهي من الساحات التاريخية الكبرى، أيضاً، التي وصلها المتظاهرون مع أولى ساعات المساء، وشهدت فعاليات فنية وغنائية تتويجاً لهذا الحدث الكبير.

تزيد المسافة بين ساحتي الكسندر بلاتس والنجمة الكبيرة عن خمسة كيلومترات، وفي هذا الحيّز، والشوارع الجانبية المؤدية إليه، كان ثمة موجات بشرية متلاحقة يوم أمس، وغابة من الرايات واللافتات والبالونات الملوّنة، وجوقة هائلة من الأصوات، وكلها تردد شعارات مناهضة للعنصرية، وداعية للحرية، والمجتمع المفتوح. وعلى الرغم من حقيقة أن عدداً كبيراً من منظمات المجتمع المدني قد شاركت في المظاهرة، إلا أن الغالبية العظمى من المشاركين كانوا، كما ذكرت وسائل الإعلام الألمانية، يوم أمس، من الأغلبية الصامتة، أي من الناس العاديين، الذين شعروا بضرورة التعبير عن أنفسهم، وإسماع أصواتهم.

لذلك، كان بين اللافتات المرفوعة كل ما يخطر وما لا يخطر على البال من الشعارات والعواطف السياسية، التي يجمع بينها عداء صريح للعنصرية، وخطاب الكراهية. وكان من الواضح أن عدداً كبيراً من تلك اللافتات صنعه الناس في بيوتهم بمبادرات فردية، وأن نسبة المشاركين من الشباب، ذكوراً وإناثاً، كانت الأكبر، ولم يكن من النادر، أيضاً، أن ترى مُقعدين جاءوا على كراسي متحركة، وكذلك عائلات وأمهات جلبن أطفالهن للمشاركة في المظاهرة. ومن المشاهد التي أثارت اهتمامي بشكل خاص كان مشهد امرأة طاعنة في السن، رفعت لافتة كتبت عليها: "الجدّات، أيضاً، ضد اليمين".

وبقدر ما يتعلّق الأمر بألمانيا فإن العداء للعنصرية، وكراهية التطرّف القومي، يكتسب دلالات يصعب العثور على مثيلها في مجتمعات أخرى. ففي كل شارع، وميدان، في العاصمة في برلين ما يحمل ذكريات تاريخية مؤلمة، وماثلة للعيان، تُعيد التذكير بالمخاطر المُرعبة التي ينطوي عليها صعود النزعات القومية والعنصرية المتطرفة.

ففي المسافة الممتدة ما بين ساحتي الكسندر بلاتس، والنجمة الكبيرة، حيث عمود النصر ذائع الصيت، مر المتظاهرون ببوابة براندنبورغ، وثمة خلاصة فريدة للتاريخ الألماني وثيقة الصلة بكل هذه الأسماء والعلامات. فوق البوابة الشهيرة رفع الجنود الروس بعد سقوط برلين، في الحرب العالمية الثانية، الراية الحمراء، والأرض التي مشى عليها المتظاهرون، يوم أمس، كانت مغطاة بالجثث، والحطام، في آخر أيام النظام النازي، وغابة تيرغارتن، التي تعتبر من المتنزهات الكبرى في برلين اليوم، وكانت في زمن القياصرة ميداناً لهواية الصيد، تحوّلت أيام سقوط برلين إلى أرض جرداء، فالأشجار التي نجت من حرائق الغارات الجوية والقصف المدفعي، تحوّلت إلى حطب في مواقد سكّان برلين في شتاء العام 1945.

وإلى يمين تلك الموجات البشرية المتلاحقة من مناهضي العنصرية والتطرّف القومي، يوم أمس، وبالقرب من بوابة برندنبورغ، يقع نصب الهولوكوست، أحد معالم برلين البارزة هذه الأيام، والذي يعيد التذكير بحقيقة أن التطرّف القومي كان المحرّض الرئيس لأكبر وأخطر جريمة من جرائم الإبادة الجماعية في الأزمنة الحديثة.

لا ينظر الألمان إلى الروس والأمريكيين الذي قهروا الوحش النازي في الحرب العالمية الثانية كمحتلين لبلادهم بل كمنقذين حرروهم من براثن الوحش النازي، وتوجد هناك بالقرب من بوابة براندنبورغ منصّة تقف عليها أولى دبابات الجيش الأحمر السوفياتي، التي دخلت برلين، وقد علّق فوقها البعض، يوم أمس، بالونات ملوّنة على هيئة قلب.

بمعنى آخر، تثير مخاطر التطرّف القومي في ألمانيا، وتفشي خطاب الكراهية، سواء تخفّت وراء قناع التحذير من مخاطر الهجرة، أو كراهية المسلمين، الكثير من الذكريات المريرة والمُفزعة في ذاكرة الغالبية العظمى من المواطنين الألمان، وتوقظ في مخيالهم السياسي مشاهد مؤلمة ومروّعة لا يستدعي استحضارها أكثر من مجرّد المرور في تلك الشوارع، ورؤية تلك الشواهد والعلامات. وهذه الدلالات، كلها، حضرت يوم أمس. وبالقدر نفسه، فإن في مجرّد رؤية والمشاركة في حدث بحجم كهذا، ودلالة كهذه، ما يبرر الكلام عن نوع من الامتياز الشخصي، أيضاً.