الثلاثاء 16 أكتوبر 2018 / 19:58

بناءُ الإنسان …. عن طريق الهدم (5)

ليس فقط تزيين الكلمات ما نتعلمه مع تراكم السنوات، بل أشياء أكثر ضررًا وأجلى خطرًا. مثل العنصرية والطائفية والكذب والانتهازية

هدم الزمن
اليوم نُتمّمُ معادلات "الهدم عن طريق البناء" التي بدأناها قبل أسابيع، وكانت كالتالي: (هدم الهدم- هدم الانهزامية- هدم القوالب الجاهزة- هدم الاستهلاكية). وكالعادة طبّقتُ تلك المعادلات على أمثلة من بني الإنسان وبني الحيوان، منها الخاص ومنها العام، كان أبطالُها نماذجَ طبقّت تلك المعادلات وحصدت التفوّق. واليوم أحدّثكم عن المعادلة الخامسة والأخيرة التي تساعدنا على البناء عن طريق الهدم. وبالتأكيد يمكن للقارئ وضع معادلات جديدة، ابتكرها بنفسه لنفسه، في سياق الهدم من أجل البناء والنجاح والتفوق.

l هدم الزمن = العودة إلى البكارة = بناء
قبل سنوات بعيدة كنت أحملُ فوق كتفيّ الطفلة الجميلة "هبة بركات"، ابنة "مُنى"، شقيقة زوجي، وأتجوّل بها على شاطئ البحر، أغنّي لها، فترقصُ كالفراشة فوق كتفي. كنتُ أقضي معها معظم ساعات يومي، ألاعبُها وأراقصُها ونُغنّي وأشاكسُها وأرتّبُ لها عرائسها.

 كانت دون الثالثة من عمرها وقتذاك. بعد انتهاء اللعب، أنظرُ في عينيها وأسألها مازحةً: “هبة، بتحبيني أنا أكتر والا ماما؟” وكانت تُجيب بعفوية الأطفال وبراءتهم: “ماما"، فأحتضنُها بقوة وأضحكُ. ظللتُ أكرّرُ عليها السؤالَ ذاتَه، عامًا بعد عام، حتى جاء يومٌ واختلفت إجابتُها، حيث قالت: “باحب حضرتك أكتر يا تانت.” هنا ابتسمتُ في شيء من الحزن، وقلتُ: “هبة كبرت!” كانت قد بلغت السادسة ربما وقتئذ، وتعلّمت ما نسميه نحن الكبار "فنَّ المجاملة". الآن كبرت "هبة" وصارت شابّة جميلة ولديها بناتٌ جميلاتٌ مثلها.

الصغارُ غالبًا أكثرُ صدقًا من الكبار وأنصعُ عفويةً. لا يقولون إلا ما يشعرون به، دون حاجة إلى تجميل الكلمات. فنحن نولد صادقين لا نعرف تزيين الكلام أو زخرفته أو تلوينه بالمبالغات أو ترصيعه بالمجازات التي كلما ابتعدت عن الواقع، اقتربت من المداهنة والرياء. نتعلّم المجاملة مع السنوات، التي قد تتعاظم داخلنا لتغدو نفاقًا وكذبًا.

في فيلم "اسمي خان"، My name is Khan، صدّق البطلُ "شاه رو خان" كلَّ كلمة كانت تُقال له. لماذا؟ لأنه صادق بنسبة مئة بالمئة. لا يعرف المجازات ولا المبالغات، بسبب كونه "متوحّدًا" Autistic، وأولئك لا يعرفون إلا الصدق في المشاعر والكلمات على نحو مرضيّ. فذكاؤهم الاجتماعي يقترب من الصفر. ونشاهد في ذلك الفيلم العظيم أنه صدّق كلَّ كلمة أخبرتها به حبيبته، حتى حينما قالت له غاضبة وساخرةً: “اذهب إلى رئيس أمريكا وأخبره أنك لست إرهابيًّا.” لم يأخذ كلامَها على محمل السخرية، بل ظل يدور وراء الرئيس الأمريكي من مدينة إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر، حتى التقاه، وأخبره بأنه ليس إرهابيًّا.

وليس فقط تزيين الكلمات ما نتعلمه مع تراكم السنوات، بل أشياء أكثر ضررًا وأجلى خطرًا. مثل العنصرية والطائفية والكذب والانتهازية وغيرها من هوادم النفس والروح. نظلُّ أبرياء حتى نلاحظ أن الكبار يهينون الفقير والمُسنَّ والمختلف عقديًّا، فنتعلم منهم ونُقلّدهم، فنتحول مع الأيام من أنقياء إلى طبقيين وقساة وطائفيين، لو لم نصن أنفسنا ونُهذّبها. نظلُّ صادقين حتى نُنصت إلى الكبار وهم يكذبون، فنتعلم منهم ونقلدهم فنصبح كاذبين مع الوقت. تقريبًا كل ما في النفس البشرية من أدران ومثالب وعيوب، لم نولد بها، إنما تعلّمناها مع الأيام والتجارب، فغذيناها وطورناها وأصّلناها في نفوسنا حتى غدت ركنًا ركينًا من شخصيتنا، نحملها فوق أكتافنا مثل حمل ثقيل من الرمال، فنمشي بتثاقل لأن أرواحنا لم تعد خفيفة بل مُثقلة بالذنوب والخطايا والنواقص البشرية. هدم كل الأدران هو طوق النجاة لكي نعود مثل الأطفال صادقين وطيبين وغير مُدنسين. نتحمّم بصابون الطفولة حتى نغسل أرواحنا مما علق بها مع الأيام، فنعود إلى سابق عهدنا مع البراءة والصدق والنقاء.

تلك هي معادلتي الخامسة والأخيرة: هدمُ الزمن وتفتيت تراكُم السنوات وتقشير الروح مما علق بها من زيف ونفاق وبغضاء = إعادة إعمار الروح وبناء النفس.

والآن، أدعوكم إلى كتابة معادلات جديدة تساهم في إكمال نظرية "البناء عن طريق الهدم".

***