جلسة عامة في الكونغرس الأمريكي (أرشيف)
جلسة عامة في الكونغرس الأمريكي (أرشيف)
الأربعاء 24 أكتوبر 2018 / 20:02

الاطمئنان إلى الديمقراطية...

مهما انحطت الديمقراطية، ومهما فتكت بها النزعات الشعبوية، تبقى هناك ضمانتان أساسيتان للرهان على مستقبلها: الحفاظ على مبدأ تداول السلطة عبر الانتخاب، والإجماع حول حدود التفويض الديمقراطي: أي أن الطرف الذي ينال أكثرية أصوات المقترعين لا يتدخل في حياة المواطنين وأذواقهم وأفكارهم وطرق عيشهم. هذا شيء وذاك شيء آخر.

الضمانتان الأساسيّتان لحماية الديمقراطيّة توفّران الإمكانيّة لا الحتميّة. هذا مهمّ بالتأكيد، إلاّ أنّ ما يفوقه أهميّة هو الإقبال على اللعبة الديمقراطيّة نفسها

يمكن القول، بطبيعة الحال، إن هذين المطلبين هما مطلبا حد أدنى ديمقراطي، وهما لا يعوضان إطلاقاً الخسائر الناجمة عن ضمور الليبرالية في النظام الديمقراطي المعتَمد، ولا يحدان من الخسائر التي يرتبها إضعاف مبدأ فصل السلطات، وانعكاسه الخطير على أحوال القضاء والإعلام خصوصاً. لكن الحفاظ على هذا الحد الأدنى يُبقي الفرصة مفتوحة أمام استعادة الديمقراطية الليبرالية، في شكل معقول ومقبول، في وقت لاحق وظرف مختلف.

المقيم اليوم في مدينة نيويورك، مثلاً لا حصراً، يلاحظ أن هذه الفرصة لا تزال متاحة، بغض النظر عن دونالد ترامب وشعبويته وإضرارها بالديمقراطية، بل تهديدها لها. فالسلطة مطروحة دوماً على التغيير، وها هي الانتخابات النصفية التي ستُجرى بعد أيام قليلة، تعلن هذه الحقيقة على نحو ساطع.

أما طريقة حياة السكان، قولاً واعتقاداً ومأكلاً ومشرباً إلخ...، فمسائل لا تستطيع أي سلطة سياسية أياً كانت أن تغيرها أو تتدخل فيها، كائنةً ما كانت ضآلة حجم التدخل.

والحال أن الحفاظ على مبدأَي الحد الأدنى المذكورَين إنما يشي بقوة التقليد الديمقراطي الذي قد يستطيع الحاكم الشعبوي أن يحرفه شعبوياً، إلا أنه لا يستطيع بسهولة أن يلغيه، كأنْ يقيم مثلاً نظاماً فاشياً وتوتاليتارياً يتخلص من تداول السلطة عبر صندوق الاقتراع، أو أن يقيم نظاماً من صنف الأنظمة الدينيّة التي تتدخل في ملبس الناس أو مأكلهم ومشربهم.

بلغة أخرى، لا مكان هنا، حيث يعمل التقليد المذكور، للإيديولوجيا الرسمية التي تهبط على المجتمع من أعلى، فتقول للمواطنين إن الانتخابات بدعة ينبغي التخلص منها، وإن هناك ما هو جائز في الحياة اليومية وما هو غير جائز.

لكن هذا لا يهدف، بطبيعة الحال، إلى التخفيف من أهمية الارتدادات الشعبوية على الديمقراطية. ذاك أن التقليد المتين ليس مطلق المتانة، بطبيعة الحال، وهو قابل للاستنزاف التدريجي في حال تعرضه لهزائم متلاحقة تتراكم وتخلق واقعاً جديداً.

من هذا القبيل، وقبل أيام قليلة على الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة، حذرنا كاتب "نيويورك تايمز" ديفيد ليونهارت على النحو التالي: "نهاية تحقيقات روبرت مولر، حول التورط الروسيّ في انتخاب ترامب، خسارة ملايين عدة من الناس للضمان الصحي. قوانين جديدة تزيد في مصاعب التصويت. مزيد من التخفيضات الضريبية للأغنياء. مزيد من التدمير للبيئة. حزبٌ جمهوري أشد شبهاً بصورة الرئيس ترامب... هذه بعض النتائج الممكنة لأي اكتساح يحققه الحزب الجمهوري في الانتخابات النصفية ولاحتفاظه بالسيطرة على مجلسي والشيوخ".

ويمضي ليونهارت داعياً قراءه إلى أن "لا يخدعوا أنفسهم"، إذ أن نتيجة كهذه ليست مستبعَدة كلياً، خصوصاً إذا غلبت الكتلة البيضاء المستاءة من ترامب ولاءها لحزبه على استيائها منه، أو إذا استنكف معارضو ترامب في أوساط الأقلية اللاتينية عن التصويت الكثيف، على ما هو دأبهم عادةً في الانتخابات النصفية.

قصارى القول إن الضمانتين الأساسيتين لحماية الديمقراطية توفران الإمكانية لا الحتمية. هذا مهم بالتأكيد، إلا أن ما يفوقه أهمية هو الإقبال على اللعبة الديمقراطية نفسها.