جيمس ستيوارت والممرضة ستيلا في فيلم "النافذة الخلفية" 1954  (أرشيف)
جيمس ستيوارت والممرضة ستيلا في فيلم "النافذة الخلفية" 1954 (أرشيف)
الأربعاء 24 أكتوبر 2018 / 20:09

قراءة ومُشاهدة

إعادة، وكل إعادة اجترار، قراءة، أحوال النبيل البارع، عين أعيان الرومانسية، الفارس الجوال، حزين الطلعة، نحيف الجسم، بارز الضلوع، طاعن رِيَش الطواحين، حامي حمى العذراوات الحالمات، دون كيخوته دلامنتشا.

ليس المُعلَّم، كما كان يُعرف على الأقل منذ أفلاطون، هو في الأساس مَنْ يعرف كيف يُعلِّم شخصاً لا يعرف، بل هو بالأحرى، مَنْ يحاول أن يعيد خلق الموضوع في ذهن الطالب

يقول نورثروب فراي في "المدونة الكبرى": ليس المُعلّم، كما كان يُعرف على الأقل منذ أفلاطون، هو في الأساس منْ يعرف كيف يُعلم شخصاً لا يعرف، بل هو بالأحرى، من يحاول أن يعيد خلق الموضوع في ذهن الطالب، وتكمن الاستراتيجية في فعل هذا قبل كل شيء، في جعل الطالب يتلمس ما كان يعرفه سلفاً وضمناً، وهو ما يشمل تحطيم القوى التي تكبح عقله، وتبقيه في منأى عن معرفة ما يعرفه. ولهذا السبب فإن المُعلّم، وليس الطالب، هو من يثير أكثر الأسئلة.

وُصف لي في حلم، شارع جانبي يؤدي إلى الشارع الرئيسي. كان نفاد الصبر للخروج إلى الشارع الرئيسي سمة الحلم. دخلتُ الشارع الجانبي. كانت أرض الشارع شديدة السواد، مع لمعة بفعل انعكاس ضوء.

إسفلت حديث هكذا قلتُ في نفسي. بعد التقدم قليلاً في الشارع الجانبي، شعرت أن أرض الشارع تتحرك تحت قدمي. كانت أرض الشارع عبارة عن أعناق وظهور وأكفال أبقار سوداء، تحتك أجسامها بطبقة زيتية، وتستجيب أقل استجابة لوقع قدمي على أعناقها وظهورها وأكفالها، وكأنّ حركتها تساعد فقط على نقل القدم للخطوة القادمة.

فضلت في الذهاب إلى المدرسة الثانوية، السلوك في شارعين، أو ثلاثة، على الأكثر، للوصول. مدة المشي نصف ساعة. الحصة الأولى، الفلسفة اليونانية. أرسطو يمشي مع تلاميذه، يشرح لهم مقولاته عن أعم الصفات التي تُطلق على الموجودات. الجوهر، الكم، الكيف، المكان، الزمان، الإضافة، الفعل، الانفعال.

أرسطوطاليس وتلاميذه مشاؤون، يقطعون المكان في زمن. أفكار على الماشي. المُعلّم: إعقد صلةً بين المدرسة المشائية، وبين المدرسة الرواقية. أنا: نشد قوساً بسهمٍ من رواق الرواقيين على المشائين.

الأستاذ: غلط. السهم بحسب زينون عليه أن يقطع المسافة من "ا" إلى "ب"، لكن قبل الوصول إلى "ب"، عليه الوصول إلى "ج"، وبين "أ" و"ج" هناك "د"، فعليه الوصول إلى "د"، وهكذا لا يصل السهم للمشائين.

براءة السهم من كعب آخيل. أنا: يأتي المشاؤون بربطة المعلم، ويهدمون الرواق على رؤوس الرواقيين. الأستاذ: صح. تلك هي القوة، عرِّف القوة. أنا: فعل القلب الجسور. الأستاذ: غيره. قطع وتين "عِرْق" الملل والخمود. غيره. صفير نفثة بخار محبوس. غيره. ابتسامة نيتشه تحت شاربه.
 غيره. رمي خرسانة الأخلاق. الأستاذ: الحصة القادمة، الثلاثاء القادم: حديقة أبيقور.

دون قصد مني، أقرأ رواية "سيدتان جادتان"، لجين بولز، الخالية تقريباً من التعليق الأدبي. تراث سالينغر وبولز وهمنغواي. أقول دون قصد مني، كنتُ أبحث عن بطلي "السماء الواقية"، كيت وبورت، لبول بولز زوج جين.

تحدت جين مع السيدة الأولى، ظل بولز الثقيل، لكن مع السيدة الثانية، السيدة كوبرفيلد، والسيد كوبرفيلد، ارتكنت جين، واستسلمت إلى عالَم "السماء الواقية"، وهو عالَم أعمق ما تكون فيه العلاقة بين زوجين.

ربما لو امتلكت جين الصبر، مثل زوجها، في الجلوس الطويل بجوار كتاباته، لأنتجت أعمالاً تضاهي "العقرب"، و"صفحات من النقطة الباردة"، و"طريدة هشة"، إلا أنها بأرستقراطيتها النافرة، فضلت ألا تنافس بولز، ولأنها ستكون مُجبرة في كل مرة تكتب فيها، أن تسأل عن رأيه، انهمكت في جنون كان مادة لزوجها ذي القلب الحجري.

أخذ السيد كوبرفيلد بيد السيدة كوبرفيلد وقادها إلى رصيف المرفأ. كانت عبارة صغيرة آتية في اتجاههما. بدا أنه لم يكن هناك أي أحد في العبارة على الإطلاق. فجأة قالت السيدة كوبرفيلد لزوجها: أنا فقط لا أريد أن أذهب إلى الأدغال.. سيدتان جادتان.. جين بولز.. موضوع الكتابة عند بول بولز يُختصر بأنه كان يذهب بزوجته جين، أو بأبطاله، دائماً إلى الأدغال، والمقصود بالأدغال كل ما هو وحشي بدائي على صعيد الواقع والروح.

بول أو بورت في "السماء الواقية"، لا يقول لكيت، أو لجين، أو للسيدة كوبرفيلد في "سيدتان جادتان"، ماذا تفعل في الأدغال، فعن نفسه لن يكون معها، سيكون مستغرقاً تحت عينيها، وهي ستتحمل مسؤولية رده من الأدغال، فهو لا يشعر بالخطر، ومُحاولَة رده من قبل جين، ستنتهي بضياعها هي نفسها. ضياع كيت بعد موت بورت في "السماء الواقية".

في فيلم "Rear Window"، أو "النافذة الخلفية" 1954، لألفريد هيتشكوك، تقول الممرضة ستيلا: هل سمعت عن انهيار البورصة 1929؟ لقد توقعته
جيمس ستيوارت: وكيف فعلتِ ذلك يا ستيلا
ستيلا: ببساطة كنت ممرضة شركة جنرال موتورز
كان تشخيص الأطباء متاعب بالكلى، وكان رأيي التوتر الشديد،
وعنها سألت نفسي ما الذي يمكن أن يقلق مدير جنرال موتورز؟
لا بد أنه الإنتاج الزائد عن الحاجة، عندئذ عرفت أن الانهيار قادم.
عندما يذهب مدير شركة جنرال موتورز إلى الحمَّام عشر مرات في اليوم،
فالبلد بأكملها تصبح مهيأة للفوضى. عبقرية هيتشكوك في أنه لا يترك حتى الحوار الثانوي، البعيد عن موضوع الفيلم، ضعيفاً، أو مهملاً، أو جسراً هشاً للعبور، إضافةً إلى عن خفة الدم المطلقة.

بالصدفة كانت لي طريقة في استطلاع الكتب، وهي طريقة ليستْ بالجيدة، أو بالسيئة، ولا أذكر أنني تعلمتها من أحد، اللهم نصيحة أبي، التي تلقي بظلالها، والتي قالها لي بشكل عابر، وأنا صغير: لا تدَّعي قراءة كتاب قبل إتمامه من الجلدة للجلدة.

لم أعمل تماماً بنصيحة أبي، إلا أنني دفنتُ وقتها ذنباً، على أمل نسيانه في المستقبل. أقرأ الأربعين صفحة، أو الخمسين صفحة، الأولى، من أي كتاب، ثم أتوقف بوعد عودةٍ، لقراءة الأربعين صفحة أو الخمسين صفحة الأولى، مرةً ثانية، وصولاً إلى نهاية الكتاب.

المرة الثانية قد تكون بعد يومين، أو ثلاثة، أو أسبوع، أو شهرين. الصفحات الواعدة مثل الصفحات غير الواعدة، تشعرني بذنب نصيحة أبي، لأن هناك دائماً كتباً أتممت قراءتها، وكانت صفحاتها الأولى لا أعتبرها واعدة، لكن بعد قراءة الكتاب من الجلدة للجلدة، أشعر بتغير حكمي الأولي، وكأنني خُدِعْت، وهذا لا يعني أنني قرأت عشرات الكتب، وكان حكمي الأولي غير صائب، ولا يعني أيضاً أن عشرات الكتب بعد قراءة الصفحات الأولى منها، ما زالتْ ناقصة القراءة، وتنتظر طوال سنوات، القراءة الثانية المكتملة، وهي إلى هذا الحين، تجلد عقلي بذنبٍ. مع الوقت أصبحتْ القراءات الناقصة أكثر من القراءات المكتملة. وكانت دفاعات القراءات الأرستقراطية المكتملة، تتحصن خلف سور، خوفاً من استطلاع جراد القراءات الناقصة. الهجوم آت لا محالة.