الباحث والمفكر المغربي الراحل المهدي المنجرة (أرشيف)
الباحث والمفكر المغربي الراحل المهدي المنجرة (أرشيف)
الخميس 25 أكتوبر 2018 / 20:19

الدراسات المستقبلية... ضرورة استراتيجية عربية

عندما كتب المفكر المغربي محمد عابد الجابري كتابه المهم"العقل السياسي العربي" كان يتكئ في مرجعياته النظرية على الأدبيات السياسية في مقاربة المفكر الماركسي الفرنسي ريجيس دوبريه "انتقاد العقل السياسي".

بإمكان الدراسات المستقبلية لو أُحسن توظيفها وقاية المنطقة العربية من الفكر والجماعات المتطرفة ومن خطاب الكراهيات على اختلاف أنواعه

اجتهد الجابري في جعل مقاربته تنطلق من تفكيك نقدي للعصور الإسلامية المبكرة الإشكالية من خلال ثلاثية القبيلة والعقيدة والغنيمة. ولكن هذه المقاربة لم تغادر حيزها التفكيكي إلى اقتراح مبادرات عربية استراتيجية كبرى، فما الفائدة من توصيفات نظرية للعقل السياسي العربي دون جعلها مجالات للتطبيق؟!

في الجامعات الغربية الآن هناك تخصص على درجة عالية اسمه "الدراسات المستقبلية" Future Studies يساعد على التنبؤ بالأحداث المستقبلية بأبعادها المختلفة من سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية وغيرها، وبواسطة تحليل معطيات الماضي والحاضر.

وتساعد هذه الدراسات المستقبلية الحكومات على صياغة استراتيجياتها المستقبليّة في دراسات قائمة أساساً على الخيال السياسي وقوة التنبؤ. ليس الخيال السياسي تبصيراً وتنجيماً وشعوذةً، مثل التي لجأ إليها بعض الحكام ورؤساء الدول الكبرى في حقب مختلفة من تاريخ البشرية، وإنما الخيال السياسي دراسات علمية على درجة عالية من التنبؤ المستند إلى قوة التحليل.

وعالمياً اشتغل على هذا النوع من الدراسات كل من جون ل. وجين كوماروف في "المجتمع المدني والخيال السياسي في أفريقيا: وجهة نظر نقدية"، وهناك أيضاً كتاب عنوانه "الصين في الخيال السياسي الأمريكي"، لمجموعة متنوعة من المختصين الأمريكيين، والصينيين.

يُعد كتاب"الخيال السياسي" للباحث والمفكر المصري عمار علي حسن، أول مقاربة عربية من نوعها إذا استثنينا مقاربة الجابري في كتابه"العقل السياسي العربي". لقد انطلق عمار علي حسن من معنى الخيال السياسي وأهميته إلى السياسة مجالاً للخيال ومنابع الخيال السياسي، ومعوقاته ومجالات توظيفه ونماذج منه.

يسهم "الخيال السياسي" في خلق نوع من الإلهام للجماعات، فخيال النماذج البطولية الكارزمية الكبرى من القادة تلهم من حولهم بواسطة هذا النوع من "الخيال السياسيّ". لقد أورد عمار علي حسن في كتابه المهم عشرات الأمثلة الشارحة والداعمة لأطروحته الكبرى، ومنها هذا المثال عن القائد سيمون بوليفار1783-1830، بطل تحرير قارة أمريكا اللاتينية الذي تصدى للاستعمار ببسالة، والذي ألهمت سردياته البطولية روائياً كبيراً مثل غابرييل غارسيا ماركيز فكتب عنه روايته الاستثنائية "الجنرال في متاهته".

 كان بوليفار قادراً على التنبؤ، وهو مايدلّ عليه الخطاب الذي ألقاه في جامايكا في 1815، بينما كان الغموض والشكك يلفان ثورة التحرير التي أطلقها. ففي هذا الخطاب تنبأ بمصير شعوب أمريكا اللاتينية جميعها وصدقت نبوءته.

يقول عمار علي حسن في كتابه: "في العام 1994 عكف أكثر من مائتين وخمسين باحثاً خبيراً فنياً من كبار المهنيين من المكاتب والشركات الهندسية والمتخصصة والأكاديميين من كل الجامعات في إسرائيل وممثلين لعشر وزارات، وممثلين عن الوكالة اليهودية، وسلطة المياه ودائرة أراضي إسرائيل للإجابة عن سؤال مفاده: كيف ترى إسرائيل نفسها في العام 2020"؟.

وقد استفادت إسرائيل من هذه الدراسة المستندة أصلاً إلى الدراسات المستقبلية.

عربياً لدينا شخصية اشتغلت عبر عقود على تاريخ الدراسات المستقبلية، ولكن الإشارات العربية إليها في حكم القليل النادر رغم شهرتها العالمية. أعني الاقتصادي وعالم الاجتماع المغربي المهدي المنجرة 1933-2013، والذي يُعد في مصاف علماء المستقبليات على مستوى دول العالم، واشتغل في هيئة الأمم المتحدة إلى جانب تدريسه في كبريات الجامعات الغربية الكبرى المرموقة ذات السمعة الرصينة عالمياً، كما استعانت الحكومة اليابانية به خبيراً في الدراسات المستقبلية الدولية.

لقد وصفه ميشال جوبير بـ"المنذر بآلام العالم"، كما اعترف المفكر الأمريكي صامويل هنتغتون في مؤلفه "صدام الحضارات" بأسبقية المهدي المنجرة في طرح هذا المصطلح.

ورغم هذا الاعتراف العالمي إلا أن قلة للأسف، من النخبة المثقفة العربية، اطلعت على مُنجز المهدي المنجرة، وعلاقته بالدراسات المستقبلية.

نحتاج في جامعاتنا العربية إلى تخصص "الدراسات المستقبلية"، ونحتاج كذلك إلى وجود مراكز استراتيجية دولية عربية خاصة بالدراسات المستقبلية، فبإمكان مثل هذه الدراسات لو أُحسن توظيفها وقاية المنطقة العربية من الفكر والجماعات المتطرفة، ومن خطاب الكراهيات على اختلاف أنواعه.

وبإمكان مثل هذه الدراسات المستقبلية وبقوة التخيل أن تضمن تخطيطاً مستقبلياً جيداً يحقق أهداف التنمية المستدامة لهذه المنطقة الحيوية من العالم.