رجال شرطة في موقع الهجوم على مسجد في بنسلفانيا.(أرشيف)
رجال شرطة في موقع الهجوم على مسجد في بنسلفانيا.(أرشيف)
الأحد 28 أكتوبر 2018 / 19:24

ثلاث جرائم وأكثر من قاسم مشترك

النزعات الشعبوية والقوميات العنصرية والدينية، حتى وإن استهدفت المسلمين، والمهاجرين من بلدان عربية وإسلامية في الواقع الحاضر، إلا أن كراهيتها لكل آخر، ومختلف، لا تقف عند لون، أو قومية، أو دين بعينه

وقعت في مناطق مختلفة من الولايات المتحدة، على مدار أقل من أربعة أيام مضت، ثلاث جرائم بعيدة الأثر تتجاوز كل منها الدلالة المباشرة للحدث نفسه. ففي يوم الأربعاء الماضي قتل رجل أبيض اثنين من الأمريكيين الأفارقة تعبيراً عن الغضب، ووصلت بداية من يوم الخميس طرود بريدية تحتوي على عبّوات متفجّرة منزلية الصنع، إلى عناوين أوباما وهيلاري كلينتون، ضمن آخرين، وفي اليوم التالي، أي الجمعة، اعتُقل أمريكي أبيض يُعتقد أنه مُرسل الطرود، وصباح أمس السبت، اقتحم مسلّح كنيساً لليهود وقتل 11 شخصاً منهم.

القاسم المشترك الأوّل بين مرتكبي هذه الجرائم أنهم من العنصريين البيض، وهذا يدل في جانب منه على مدى توتر واحتقان الحساسيات العرقية في الولايات المتحدة. والقاسم المشترك الثاني أن المُستهدفين في جريمتي الطرود البريدية، والمُصلّين في الكنيس اليهودي، من المحسوبين على معسكر الديمقراطيين والليبراليين، عموماً، في المشهد السياسي الأميركي. وهذا يدل في جانب منه، أيضاً، على مدى ما بلغته الحساسيات والصراعات الأيديولوجية من توتر واحتقان.

أما القاسم المشترك الثالث بين هذه الجرائم أن في كل منها ما يدل على استخدام العنف لتحقيق غاية سياسية، أو التعبير عن رسالة أيديولوجية، وهذا ما يضعها في خانة الإرهاب. وفي هذا الأمر يستحق وقفة خاصة:

فدلالته الأولى تعني أن الإرهاب ظاهرة عابرة للأديان، والقوميات، والطبقات الاجتماعية، ولا يمكن حصرها في دين بعينه أو في هذه الجماعة القومية أو تلك، ودلالته الثانية تعني أن كراهية الآخر، المختلف في الدين، أو العرق، أو الميول السياسية، والخيارات الاجتماعية، لا تنحصر في الموقف من المهاجرين، أو في الإسلاموفوبيا، بل تهدد بنسف النسيج الاجتماعي، والسلام الأهلي، في كل مجتمع صعدت فيه، وتمكنت منه.

وأوّل ما يتبادر إلى الذهن، في هذا الصدد، أن جرائم القتل، على خلفيات عرقية، وأيديولوجية، لم تعد ظاهرة استثنائية في الحقلين الاجتماعي والسياسي الأمريكيين. ويبدو أن وصول، أوباما وهو أوّل أميركي أسود إلى البيت الأبيض، الذي أعقبه وصول ترامب الذي يحظى بتعاطف الإنجيليين المسيحيين، والقوميين البيض، قد أضاف مزيداً من الحطب، بالمعنى الأيديولوجي والرمزي، إلى نار كانت دائماً هناك، وإن لم تكن على قدر من الحدة والخطورة كما تبدو الآن.

وإذا أضفنا إلى كل ما تقدّم حقيقة أن العنف العاري المجرّد من كل دلالة سياسية وأيديولوجية، كما هو الحال في عمليات إطلاق النار في المدارس، أو على الناس في الأماكن العامة، تفشى في السنوات الأخيرة بشكل غير مسبوق، فثمة ما يبرر القول إن المجتمع الأمريكي نفسه يعيش أزمة غير مسبوقة.

والواقع أن جريمة قتل المصليّن في الكنيس اليهودي تستحق وقفة خاصة بحكم ما تنطوي عليه من دلات معقّدة وبعيدة المدى. فمعسكر اليمين القومي ـ الديني في إسرائيل، وحكومتها الحالية، يُراهنان على صعود النزعات الشعبوية، واليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة، والغرب عموماً، إذ يعتقد هؤلاء أن التحالف مع الشعبويات والقوميات العنصرية والدينية المتطرفة سيمكّنهم من قلب قواعد اللعبة في فلسطين والشرق الأوسط بشكل عام.

والمفارقة، في هذا الشأن، أن النزعات الشعبوية والقوميات العنصرية والدينية، حتى وإن استهدفت المسلمين، والمهاجرين من بلدان عربية وإسلامية في الواقع الحاضر، إلا أن كراهيتها لكل آخر، ومختلف، لا تقف عند لون، أو قومية، أو دين بعينه، بل تتجاوز هذا وذاك، لتطال اليهود أنفسهم، وقد كانوا دائماً على مدار قرون طويلة من التاريخ الأوروبي ضحية مثالية بامتياز.

والمهم في كل ما تقدّم أن هذه الجرائم قد وقعت قبل موعد الانتخابات النصفية في نوفمبر (تشرين الثاني) القادم بأسابيع قليلة، والتي قد تكون حاسمة بالنسبة لمستقبل النظام السياسي الأمريكي على مدى سنوات طويلة قادمة. كل ما في الأمر، الآن، أن ثلاث جرائم وقعت خلال أقل من أربعة أيام، وأن فيها فرادى ومجتمعة دلالات بعيدة المدى.