أمريكيون يواسون بعضهم بعد الهجوم على كنيس بيتسبورغ.(أرشيف)
أمريكيون يواسون بعضهم بعد الهجوم على كنيس بيتسبورغ.(أرشيف)
الأربعاء 31 أكتوبر 2018 / 20:22

في الحب والكراهية

لا بأس بالاستبشار بنقاط ضوء قليلة متناثرة هنا وهناك، في عدادها ما أقدم عليه مسلمون في الولايات المتّحدة جمعوا 190 ألف دولار إسهاماً منهم في أكلاف جنازة ضحايا بيتسبورغ اليهود ودفنهم

في استقصاء للرأي أجرته "إيكونوميست – يوغوف" مؤخّراً، عشيّة انتخابات منتصف الولاية في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، جاءت النتائج الثلاث الأبرز تقول التالي:

أوّلاً، لا تزال إسرائيل قويّة وتحظى بتعاطف صلب في أوساط الرأي العام الأمريكيّ.

وثانياً، أنّ قوّتها تتراجع قياساً بالماضي، فيما صورتها تتعرّض لشيء من التراجع، إن لم يكن التآكل التدريجيّ.

وثالثاً، أنّ قوّتها الراهنة هي أعلى ما تكون في أوساط الرجال البيض الأغنياء وذوي الحزبيّة الجمهوريّة، إلاّ أنّها ضعيفة بين النساء والملوّنين والشبيبة والفقراء، وكذلك في البيئات الحزبيّة الديمقراطيّة والليبراليّة.

استقصاء الرأي هذا، والذي نقلت صحيفة "هآرتس" الإسرائيليّة نتائجه وناقشت دلالاته، حصل قبيل مذبحة الكنيس اليهوديّ في بيتسبورغ التي أودت بـ11 ضحية، لكنّ النتائج على المدى الأبعد لن تتغيّر كثيراً في غالب الظنّ. فالصورة التي ارتسمت تقول إنّ حبّ الدولة العبريّة، بوصفها دولة احتلال ورعايةٍ للاستيطان وممارسةٍ لعنف أعمى حيال الفلسطينيّين، لم يعد موضع إجماع في الولايات المتّحدة، وهو ما يصحّ بنسبة أعلى في أوروبا الغربيّة. فوق هذا، فإنّ البيئة المُحبّة لها هي نفسها بيئة الدفاع عن الأوضاع القائمة، بما فيها من اختلال عميق لصالح الظلم والقوّة، وبما يتحكّم بأفكارها من نزعات قوميّة وشعبويّة مصابة غالباً برُهاب الإسلام والمسلمين.

هذه الخلاصات تتيح قدراً من التفاؤل بأنّ كلّ تقدّم يحصل في المستقبل، وكلّ انزياح في اتّجاه ديمقراطيّ وليبراليّ، سيعملان حكماً لمصلحة الفلسطينيّين وقضيّتهم.

مع هذا، تبقى مشكلتان، وإن اشتغلت كلّ منهما في اتّجاه: من جهة، ما يحصل اليوم هو انزياحات أكبر لصالح الشعبويّة القوميّة على حساب الوعيين الديمقراطيّ والليبراليّ، وليس العكس. يُستدلّ على ذلك من خلال مراجعة عابرة لأحوال مروحة كبيرة جدّاً من البلدان، آخرها ألمانيا، كبرى دول أوروبا، والبرازيل، كبرى دول أميركا اللاتينيّة: في الأولى، أسفرت انتصارات اليمين في عدد من الانتخابات الفرعيّة المتتالية عن إعلان المستشارة أنجيلا ميركل عن نيّتها مغادرة المسرح السياسيّ قريباً (ثمّة من يقول إنّ حزبها "المسيحيّ الديمقراطيّ" أجبرها على ذلك). في الثانية، فاز مرشّح أقصى اليمين الشعبويّ والعنصريّ، جاير بولسونارو، برئاسة ذاك البلد العملاق.

هذه ليست خسارة على المدى الأبعد. إنّها يمكن أن تكون ربحاً.

هذا ما يقودنا إلى المشكلة الثانية، وهي أن يطوّر الفلسطينيّون (والعرب)، أو قواهم الأكثر حيويّة وتأثيراً في آن معاً، انتساباً عميقاً إلى المعسكر الديمقراطيّ والليبراليّ في العالم. تحوّل كهذا يعني مشاركة ذاك المعسكر شعوره بالخسارة حيال القوى الشعبويّة، ومشاركته، من ثمّ، تصوّراته حول الحقّ والعدالة، والذات والعالم. هذه مسؤوليّة كبرى أو ضريبة على وعينا السائد لا بدّ من دفعها في سبيل القدرة على المشاركة في أيّ انتصار لاحق، فضلاً عن كونها تحصيناً عقلانيّاً وتقدّميّاً للوعي المذكور.

ما لا شكّ فيه أنّ ظاهرات الاستبداد والتعصّب في منطقتنا تعمل بقوّة كعنصر تأبيد لهذا الواقع القائم، وبالتالي كعنصر إعاقة للّحاق بالمعسكر الديمقراطيّ والليبراليّ في العالم. ولا بدّ من الاعتراف بأنّ تلك الظاهرات لا تزال، بلا قياس، أقوى كثيراً من الظاهرات المناقضة لها. مع هذا، لا بأس بالاستبشار بنقاط ضوء قليلة متناثرة هنا وهناك، في عدادها ما أقدم عليه مسلمون في الولايات المتّحدة جمعوا 190 ألف دولار إسهاماً منهم في أكلاف جنازة ضحايا بيتسبورغ اليهود ودفنهم. هنا، في مناهضة العنصريّة واللاساميّة ورُهاب الإسلام، تتموضع قضيّة الحقّ الفلسطينيّ، أو هذا ما ينبغي.