قافلة المهاجرين الهندوراسيين.(أرشيف)
قافلة المهاجرين الهندوراسيين.(أرشيف)
الأربعاء 31 أكتوبر 2018 / 20:12

عنف الديمقراطية

تواجه الولايات المتحدة الأمريكية، بصورة مقلقة، وبمُناسبة انتخابات التجديد النصفي، بعد أيام قليلة، 6 تشرين الثاني (نوفمبر) القادم، عنف الديمقراطية. أمريكا تقبل عنف الديمقراطية في أي بلد خارج أراضيها، لكن أن تنتقل عدوى العنف والكراهية إلى انتخابات الولايات المتحدة، وتتعدى الديمقراطية سقف المُنَافَسَة والإثارة المسموح بهما، هذا هو ما لم يكن في الحسبان.

وصل الأمر إلى أن يتلقى ديمقراطيون بارزون، معارضون بشدة للرئيس الأمريكي الجمهوري دونالد ترامب، مثل هيلاري كلينتون وباراك أوباما والممثل روبرت دي نيرو وشبكة سي إن إن، طروداً بريدية مشبوهة تحتوي على مواد متفجرة. وما زاد الطين بلَّة، أن المُعتَقَل سيزار سايوك، البالغ من العمر 56 عاماً، هو من مؤيدي ترامب المتعصبين، وله سجل جنائي. وعلى الرغم من إدانة ترامب لتهديد سايوك الإرهابي، إلا أن الديمقراطيون اتهموا الرئيس الأمريكي، حتى قبل اعتقال سايوك، بأنه هو نفسه مَنْ يُشجِّع على العنف، بخطابه السياسي الشعبوي. وكان رد ترامب المعتاد، أن السوشيال ميديا، مُمثَّلة في نيويورك تايمز وواشنطن بوست وسي إن إن، هي التي تُحرِّض على العنف بأخبارها الزائفة.

وفي نفس الوقت ما زالتْ مشكلة الهجرة التي اشتعلتْ أيضاً قبل أيام من تهديد الطرود المتفجرة، تلقي بظلالها على انتخابات التجديد النصفي، فبحسب قافلة هجرة من أمريكا الوسطى، تضم الآلاف من الهندوراسيين، يقطعون المسافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، مشياً على الأقدام، عبر غواتيمالا والمكسيك، ما زال أمامهم 39 يوماً، وقت كتابة هذه السطور. رمزية الهجرة بمارش الأقدام، تعني أن المهاجرين معدمون لا يملكون شيئاً سوى هذا المارش اليائس. وكأنَّ رسالتهم هي: المسافة التي تقطعها الأقدام ببطء بدائي، لن تردها قوانين الحدود بسهولة.

نعت دونالد ترامب قافلة المهاجرين المتجهة شمال الولايات المتحدة، بأنها تضم عصابات، ومجرمين، وإرهابيين شرق أوسطيين، وألمح إلى أن الديمقراطيين اليساريين، هم مَنْ مولوا تلك القافلة. الحقيقة أن الهندوراسيين ناس عاديون، يفرون من الفقر، ويطمحون في حياة أفضل، أليستْ أمريكا بلد الأحلام؟ بلد الأغنياء؟ الحكاية التي لا تُقال، والتي لا يُناسب قولها أباطرة سياسات المال، أن الغنى توحَّش، والفقر كرد فعل، توحَّش أيضاً.

الإيكونوميست نشرتْ تقريراً تنتقد فيه الجمهوريين، وهذا ليس بجديد، لكن أن تنتقد الديمقراطيين أيضاً، هذا هو الجديد، والغريب على سياسات تحرير الصحيفة، وكأنَّ الوضع العالَمي الضاغط، غير المسبوق، أفلت نقداً صريحاً ضد الديمقراطيين. تهرَّب الديمقراطيون بحسب الإيكونوميست، من القول الصريح، هل يقبلون، على بياض، دون شروط، دخول قافلة المهاجرين عند وصولها للولايات المتحدة؟ أم يرفضون؟ موقف الديمقراطيين الغائم، الرمادي، من قافلة المهاجرين، يعني أنهم لا يستبعدون اندساس بعض الخارجين عن القانون في قافلة المهاجرين، لكن الانتخابات على الأبواب، وأمل الديمقراطيين كبير في مُساندة كتلة اللاتينو داخل الولايات المتحدة.

يحكي الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك، واقعة طريفة في كتابه "مرحباً في صحراء الواقع"، والواقعة من الممكن أن تسلط الضوء على الخلاف الزائف بين الجمهوريين والديمقراطيين. في 1994 حين كان مُتوقعاً حدوث موجة هجرة جديدة من كوبا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حذَّر فيدل كاسترو الولايات المتحدة من أنها إذا لم تتوقف عن تحريض الكوبيين على الهجرة إلى الولايات المتحدة، باسم الحريات، فلن تمنعهم كوبا من الهجرة. وهذا ما قامت به السلطات الكوبية بعد يومين، مُحرجةً الولايات المتحدة بآلاف المهاجرين غير المرغوب فيهم.

نفترض أن الرئيس الأمريكي، وهذا افتراض متفائل، دونالد ترامب، أحرج الديمقراطيين، ورحَّب بالهندوراسيين، وفتح الباب على مصراعيه لكل مهاجري أمريكا الوسطى، هل سيقول الديمقراطيون عندئذ: لم نكن نقصد الحريات والإنسانيات بمعناها الحَرْفي، كانت الكلمات في الهواء، لا أكثر ولا أقل. هناك أيضاً نكتة لاذعة يذكرها جيجيك، من الممكن استخدامها، لفضح زيف الاختلاف بين الجمهوري والديمقراطي في أمريكا. تقول النكتة إن رجلاً تحرَّش بامرأةٍ، تحرشاً لفظياً ذكورياً جارحاً، فقالت له: إخرس، أو سيكون عليك أن تفعل ما تتبجح به.

دونالد ترامب بالطبع لن يصل تفكيره إلى إحراج الديمقراطيين إحراجاً مُضاعفاً، وهذا بأن يكون ديمقراطياً أكثر منهم ألف مرة. وهكذا تنفس الديمقراطيون الصعداء، عندما أمر دونالد ترامب بنشر 2100 من الحرس الوطني على الحدود، لمواجهة قافلة المهاجرين. فمن جهة يريد الديمقراطيون المُحَافَظَة على حدٍ أدنى من الخلاف بينهم وبين الجمهوريين، لكنهم في نفس الوقت، ومن جهة أخرى، لا يريدون تسخيف هذا الحد الأدنى من الخلاف، وفضحه، واعتباره زائفاً جملةً وتفصيلاً. لا يريدون أيضاً خلافاً حقيقياً، صادقاً، يصل بينهم وبين الجمهوريين إلى درجة الكراهية والفوضى والاقتتال.

وبنفس المنطق نستطيع استنطاق الديمقراطية ذاتها. ماذا تريد الديمقراطية من مُمارسيها؟ الإجابة أن الديمقراطية، تريد الحد الأقصى في ممارستها، تريد الإفراط المطلق، والحيوية المطلقة على حد تعبير الفيلسوف جاك رانسيير في كتابه "كراهية الديمقراطية". الإفراط والحيوية، يعني إطلاق الرغبات الفردية جميعها، دفعةً واحدة، وهذا يؤدي صدام الرغبات، على طريقة صدام الحضارات، أي يؤدي إلى العنف، والكراهية، والاقتتال، وبهذا تعود الديمقراطية إلى لحظة ولادتها اليونانية، الأولى، قبل أن تُهذَّب وتُروَّض، وتُنْزَع عنها وحشية الميلاد، ووحشية الأصولية، عندما كانت كلمة "الديموقراطية"، تعني السب، والبغض، والفوضى الخرائبية، في نظر الأرستقراطيين، عندما نحت الأرستقراطيون كلمة "الديمقراطية"، دفاعاً عن أنفسهم، ولوصف حكم الدهماء.

يقول جاك رانسيير: أزمة الحكم الديمقراطي ليستْ سوى كثافة الحياة الديمقراطية. تتماهى الحياة الديمقراطية مع المبدأ الفوضوي، والفوضى خلاقة بحسب وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس، لكنه خلق شرير، يحققه الأمريكيون فقط في بلاد أخرى، أي أنهم يطلقون العنان للديمقراطية، وبقوة السلاح في بلاد أخرى، ويقيدون الديمقراطية، وبقوة السلاح أيضاً في بلدهم.