السبت 3 نوفمبر 2018 / 19:41

القراءة كسبب وجيه للوسوسة والفقر

اعتدنا على الدوام، أن نرى دولة الإمارات العربية المتحدة سباقة إلى كل شرف مروم، لكل ما يمكن أن يكون سبباً لفتح أبواب الخير وإغلاق أبواب الشر، لكل ما يمكن أن يكون وسيلة لرقي الإنسان العربي ونجاحه ورفاهه، لذلك لم يكن غريباً أن تقوم تلك المسابقة التحفيزية "تحدي القراءة العربي" كمبادرة إمارتية تضاف إلى العديد من المبادرات الخيرية التي تسعى للنهوض بالأمة.

كل العالم شاهد الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة ورئيس مجلس الوزراء وحاكم دبي، وهو يكرّم الطفلة المغربية مريم أمجون الفائزة بلقب "بطل تحدي القراءة العربي" وذلك في الحفل الذي أقيم يوم الثلاثاء الماضي بدار الأوبرا في دبي، ولم تكن مفاجأة أن بكت الطفلة الجميلة مريم لأن مثل هذه المواقف تكون صعبة ومُوتّرة بالنسبة للكبار، فما بالك بالأطفال الصغار! لكن المفاجأة الحقيقية هي أن الشيخ محمد بن راشد أخذ طرفي عمامته ومسح دموع الطفلة بيد الأبوة، في مشهد إنساني، جماله في كونه قد حدث بصورة تلقائية سريعة.

هذه المناسبة ذكرتني بأيام الطفولة. لن ألج في نوستالجيا نرجسية عن ولعي المبكر بالقراءة لأن الحديث عن النفس كله سخفٌ، وإنما عن مقولات شائعة في تلك الأيام، "الذي يُكثر القراءة يفقد عقله ودينه ويصاب بالوسواس، ومن يُكثر حمل الكتب يرافقه الفقر" هذه المقولات وما يشابهها كانت شائعة عند عموم الناس في بلدنا، كانوا يخافون فعلاً ومن صميم قلوبهم على رفيق الكتاب، يخافون أن يفقد عقله! وإن لم يفقد عقله فسيفقد دينه! وإن لم يفقدهما فسوف يكون من الفقراء لأن القعود عند الكتب سيحرمه الاكتساب والاحتراف. تلك الدعاوى كانت تكرر على الأسماع إلى وقت قريب، ولم يكن من الممكن أن تدخل في نقاش حولها، بل كان الأفضل أن تصمت أو أن تبتسم وتترك المغرّد في ذلك الزمان يغرّد كما يشاء.

هل كان المشهد متصلاً هكذا منذ الأزمنة القديمة؟ لا، على الإطلاق. عندما كنت طفلا صغيراً، ربما في عمر مريم أمجون، في سبعينات القرن العشرين، كان والدي يأخذني معه في المساء إلى مكتبه، هذا المكتب كان في شارع معروف في مدينة الرياض اسمه شارع البطحاء، لو أنك مررت اليوم بهذا الشارع فستجد أنه بكامله قد تحوّل إلى أسواق تبيع المنتجات الرخيصة المجلوبة من الصين، وهناك عدد من المقاهي التي تقدم وجبات سريعة لا أنصحك بالأكل منها، وهناك أيضاً مراكز كثيرة لبيع الأدوات الكهربائية بأسعار منافِسة. هذا الشارع هو جزء من ذكريات طفولتي، وكثير ممن أحكي لهم لا يصدّقون أن هذه الأسواق الرخيصة قد شيدت فوق مكتبات عظيمة كانت هنا. كان الوالد يُشجعني على التجول في تلك الواحة الفكرية وقد عددتها ذات يوم فكانت 14 مكتبة ضخمة شاسعة في شارع واحد، والكتب التي كانت تُعرض لم يكن لها علاقة بجماعة أبي قتادة ولا بجماعة أبي قبيصة، ولم نكن نعرف كتب السحر ومهارات التقمص ولا تقنيات إخراج الجن من الأظافر، وكتب من كفر ومن لم يكفر. أبداً على الإطلاق، إنما كانت رفوف تلك المكتبات تزدهر بالروايات، خصوصاً روائع الأدب العالمي، روايات تشارلز ديكنز وسومر ست موم وفيكتورهوغو وإميل زولا وألبرتو مورافيا وكل تلك الأسماء العظيمة التي أكتبها وأنا أتخيل رفوف تلك المكتبات التي انقرضت منذ زمن بعيد. الروايات كانت هي الأكثر شعبية مثلما هي اليوم، وكتب الفلسفة كانت هناك أيضاً إلا أن جمهور الفلسفة قليل في كل زمان ومكان، وكانت هناك أيضاً كل أشكال الكتب السياسية والفكرية، من يصدق مثلاً أن كتب كارل ماركس وماو تسي تونغ وبقية الرفاق كانت تباع في الرياض وبريدة وعنيزة والرس في ستينات وسبعينات القرن العشرين، وربما قبل ذلك، ليس في المكتبات فقط، بل على أرصفة الشوارع؟!

بشيء من التحليل البوليسي غير المحترف يمكن أن نخرج هنا بأن مقولة "القراءة تسبب الوسوسة" ليست مقولة قديمة وإنما حادثة، مقولة خرجت في زمن الصحوة لتحبس المثقفين وعشاق القراءة في مضمار القراءة الدينية فقط.لا ينبغي أن نخاف أو أن نخوّف أبناءنا وبناتنا من القراءة، فالقراءة لا تجلب الفقر ولا الوسوسة، بل القراءة لا تأتي إلا بالخير، فلنتجاوز مرحلة الهلع تلك، ولنتجاوز الرغبة في القولبة والسيطرة على الفكر، ولنشجع الجيل الجديد على أن يكون شجاعاً قبل كل شيء. لنشجعه على القراءة فالمعرفة قوة وسعادة ممتدة وعظيمة، أعظم من كل لذات الحس القصيرة.