السبت 3 نوفمبر 2018 / 20:17

حادث دير المنيا... ما وراء استهداف مسيحيي مصر؟

في أعنف هجوم على مسيحيي مصر منذ عام تقريباً، قتل إرهابيون أمس سبعة أشخاص، وأصابوا ثمانية عشر، حين أطلقوا النار على مواطنين عزل كانوا عائدين من دير الأنباء صموئيل بمحافظة المنيا ( 260 كيلومترا جنوب القاهرة) وهم يرتادون حافلة، بعد تعميدهم طفلاً.

وقد تبني تنظيم داعش الإرهابي الهجوم وزعم أنه جاء رداً على قيام الحكومة باعتقال ست نساء تنتمين إلى جماعة "الإخوان" من بينهم ابنة خيرت الشاطر، الذي يعد الرجل الأول في الجماعة.

لكن هذا الربط يبدو غير منطقي، إذ سبق لداعش أن نفذ سلسلة هجمات إرهابية على المسيحيين، منها هجوم على هذا الدير نفسه في مايو من العام الماضي، أسفر عن مقتل 28 شخصاً، في الوقت نفسه فإن من ينفذ عمليات انتقامية لصالح "الإخوان" هو جناح الجماعة العسكري المسمى "حسم".

ففي الحقيقة، ليس جديداً أن تستهدف الجماعات التكفيرية والإرهابية مسيحيي مصر، كما تستهدف بالطبع مسلميها من غير الذين يعتنقون أفكارها السوداوية، ولكن المسيحيين صاروا في عين عاصفة الإرهاب بطريقة أشد، وصورة أنكى، ومستوى فاق كل ما سبقه.

فمنذ سبعينيات القرن العشرين وهذه الجماعات تضع في حسبانها النَّيل من المسيحيين، وبدأت مسارها هذا بإثارة فتنة بمنطقتي "الزاوية الحمراء" بالقاهرة و"الخانكة" بالقليوبية (دلتا مصر)، وانتقل الأمر إلى استحلال أموال المسيحيين على يد ما يسمى بـ"الجماعة الإسلامية" في صعيد مصر، باعتبارها "غنائم حرب" أو "جزية"، وهي أعمال سرقة عوقب عليها من تم القبض عليهم من هذه الجماعات بأحكام ينص عليها قانون العقوبات المصري في جرائم السرقة والسلب والنهب.

ومع انكسار الموجة الرابعة للإرهاب بعد أن أطلقت هذه الجماعة "مبادرة وقف العنف" وتصالحت تكتيكياً مع الدولة لم يبق للمسيحيين إلا بعض المضايقات أو المشكلات الاجتماعية الاعتيادية التي تحدث بين حين وآخر جراء الاحتكاكات اليومية بينهم وبين المسلمين، وأغلب هذه المشكلات يحدث بين المسلمين أنفسهم، ولكن المجتمع المصري كان قادراً طيلة الوقت على تجاوز هذه المشكلات والفتن العابرة، والتي وقع أغلبها في الصعيد، إلى أن وقع حادث كنيسة القديسين الإرهابي في ديسمبر 2010، ليخرج المسيحيون ومعهم المسلمون في مظاهرات غاضبة ضد السلطة وقتها، لأنها فرطت في حماية الكنائس، ثم انجرف هذا الحادث مع خروج ملايين المصريين في ثورة يناير، وبروز المشهد العظيم الذي جمع بين المسلمين والمسيحيين في ميدان التحرير، ليحمي كل منهما الآخر في أوقات الصلاة تحت هتاف: "مسلم ومسيحي يد واحدة".

ولكن كل شيء تغير مع تصاعد النفوذ السياسي والاجتماعي لجماعة الإخوان وحلفائها من التنظيمات والجماعات المتطرفة والتكفيرية، فعادت مصر مرة أخرى لتشهد صعود ظاهرة التضييق على المسيحيين بل العمل على تجريدهم من حقوق المواطنة، فاعترض سلفيون ومنتمون لهذه الجماعات على تعيين مسيحي في منصب محافظ قنا (صعيد مصر) ورضخت سلطة المجلس العسكري الحاكم لهذا. ثم شهدنا حادث هدم كنيسة بقرية "صول" التي تقع على بعد ثلاثين كليومتراً جنوب القاهرة، ومحاولة بناء مسجد مكانها، وحرق كنيسة في حي إمبابة بالجيزة، ليأتي مسار الحرق المروع بعد فض اعتصام "الإخوان" وحلفائهم في ميدان "رابعة" حيث أضرم أتباع الجماعة وأنصارها النار في أكثر من سبعين كنيسة في صعيد مصر، ليقول الأنبا تواضروس يومها قولته الشهيرة: "كل الناس فداء لمصر" أو مقولته الأخرى: "نستطيع أن نعيش في وطن بلا كنائس، لكننا لا نستطيع أن نعيش في كنائس بلا وطن".

وفي هذه الأيام، عادت أحداث النَّيل من الكنائس بطريقة مختلفة، حيث يقصدها إرهابيون بزرع قنابل داخلها أو بأحزمة ناسفة، مثلما رأينا في حادث الكنيسة البطرسية في ديسمبر من عام 2016، والحادثين اللذين وقعا بعدها في طنطا عاصمة محافظة الغربية (دلتا مصر) والإسكندرية.

وأعتقد أن هناك ثلاثة أسباب تقف وراء هذه الحوادث، الأول هو الانتقام من المسيحيين بدعوى أنهم لعبوا دوراً كبيراً في إسقاط حكم "الإخوان"، مع أن أغلب الذين انتفضوا ضد الجماعة، وفاضت الشوارع بطوفانهم البشري الرهيب، هم من المسلمين.

والثاني هو إظهار السلطة الحالية بمظهر العاجز عن حماية المسيحيين، الأمر الذي قد يؤلبهم عليها أو يفتح باباً أمام حديث عن تدخل أجنبي لحمايتهم.

والثالث والأهم هو ضرب الوحدة الوطنية المصرية، بما يؤدي إلى اضطراب سياسي واجتماعي، تنتظره الجماعات الإرهابية والتكفيرية بصبر نافد حتى تبدأ مسارها الدموي على غرار ما جرى ويجري في سوريا الآن.

فالإرهابيون، الذين يقاتلهم الجيش المصري في سيناء، ليس بوسعهم أن ينالوا منه طالما أن الأوضاع الاجتماعية مستقرة وراء ظهره وحوله، أما إن حدث اضطراب فسيتمكنون من مهاجمة قوات الجيش ومعها الشرطة في كل مكان على أرض مصر، وهذا ما يحلمون به، ويعتقدون أن ضرب الكنائس هو أقصر وأيسر طريق للوصول إليه.

وتواجه مصر كل هذا بعوامل راسخة حافظت دوماً على التماسك الاجتماعي بشكل عام، وبين المسلمين والمسيحيين بصفة خاصة، ومنها هبة الجغرافيا، حيث يتوزع المسيحيون على كل الأماكن، المدن والقرى والنجوع، ولا يعيشون في منطقة جغرافية محددة مثلما هو الحال لأقليات في بلدان أخرى، ومنها وحدة العرق، والموروث الشعبي، ومصالح السوق، والعقلاء من المسلمين والمسيحيين، وكفاح التيار المدني من أجل المواطنة، وجهود الأزهر والكنيسة في سبيل الوئام الاجتماعي.

ويعول كل المصريين على هذا في سبيل تفويت الفرصة على الإرهابيين الذين يسعون بكل قوة وخسة إلى شق الصف الوطني في مصر، وإشاعة الفوضى، بغية خلق بيئة مناسبة لهم، يتمددون فيها اجتماعياً، ويتمكنون عسكريا، ويقوون اقتصاديا، وهي مسألة يعيها المصريون جيدا، ولن يسمحوا لهؤلاء التكفيريين القتلة بالوصول إلى ما يريدون.