الشاعر والروائي والمسرحي الفرنسي جان جينيه 1910- 1986 (أرشيف)
الشاعر والروائي والمسرحي الفرنسي جان جينيه 1910- 1986 (أرشيف)
الأربعاء 7 نوفمبر 2018 / 19:17

القديس جينيه

يحكي إدوارد سعيد في كتابه الأخير "عن الأسلوب المتأخر"، عن المرة الأولى التي شاهد فيها الكاتب الفرنسي الشهير جان جينيه، في ربيع 1970. أُعلن عن تجمع دعماً لـ "الفهود السود"، والتجمع كان على درجات السلالم في جامعة كولومبيا. جان جينيه سيقول كلمة دعم، بعد دخوله إلى أمريكا عن طريق كندا، بطريقة غير شرعية.

صُدِمَ إدوارد سعيد كيف أن سارتر، هذا المثقف الغربي الكبير، كان واقعاً في أسر الصهيونية إلى الدرجة التي منعته منعاً باتاً من التفوه، ولو بكلمة واحدة خلال الندوة، عما عاناه الفلسطينيون على أيدي إسرائيل

لاحظ إدوارد سعيد أن أحد الطلاب الذي يُترجم عن جينيه، كان يُبالغ في الترجمة. جينيه في كلمات بسيطة دعم "الفهود السود". المترجم أضاف كلمات رنانة عن الرأسمالية، والرجعية.

كان إدوارد سعيد مأخوذاً ببعد المسافة بين هيئة جان جينيه المتواضعة الهادئة، وبين أعماله الصاخبة "سيدة الأزهار"، و"يوميات لص"، وكأن تلك الأعمال الصريحة، الصادمة، مكتوبة من لدن الطالب المُترجم عن جينيه، وكأن جينيه كتب فقط حضوره الهادئ المتواضع النقي.

المرة الثانية التي قابل فيها إدوارد سعيد، المتجول في الشرق، الملعون على درب رامبو، جان جينيه، كانت في بيروت 1971. لم يكن إدوارد سعيد يعرف شيئاً عن التزام جينيه الوثيق بالمقاومة الفلسطينية.

لم ير جان جينيه كتابه الأخير "أسير عاشق" 1986، عام وفاته، كما لم ير إدوارد سعيد كتابه الأخير "عن الأسلوب المتأخر" 2003، عام وفاته.

أخبر سعيد جان جينيه، حقيقة الترجمة التي قام بها الطالب في تجمع "الفهود السود"، العام الفائت. لم يتأثر جينيه قط بمبالغات الطالب، وقال لسعيد: "لم أقل تلك الكلمات حرفياً، لكنني فكرت بها". تحدث جينيه عن سارتر. سأله سعيد: "لا بد أن مجلد سارتر الضخم "جان جينيه، الممثل والشهيد"، أزعج بطل الكتاب بعض الشيء".

قال جينيه ببرود: "لم يزعجني، إذا أراد الرجل أن يرسمني قديساً، فهذا ممتاز". استطرد جينيه قائلاً عن موقف سارتر المتصلب في تأييد إسرائيل: "إنه على شيء من الجُبن. يخاف أن يتهمه أصدقاؤه في باريس بالعداء لليهود إن قال أي شيء في تأييد الحقوق الفلسطينية".

بعد سنوات كان إدوارد سعيد مدعواً إلى ندوة أكاديمية في باريس، عن الشرق الأوسط، نظمتها سيمون دي بوفوار مع سارتر، تذكّر سعيد مُلاحظة جينيه، وصُدم كيف أن سارتر، هذا المثقف الغربي الكبير، كان واقعاً في أسر الصهيونية إلى الدرجة التي منعته منعاً باتاً من التفوه، ولو بكلمة واحدة خلال الندوة، عما عاناه الفلسطينيون على أيدي إسرائيل.

في سهرة سعيد على شرف جينيه، ذكر الأخير أن دريدا صديق، وكان يظن أن دريدا مستكين من أتباع هيدغر. كتب دريدا كتاباً بعنوان "جرس"، وفي الكتاب شطر دريدا الصفحة نصفين، نصفاً لهيغل، ونصفاً لجينيه.

وفي الكتاب إشارة عابرة، موجزة، من دريدا إلى إدوارد سعيد، نعته بالصديق الذي عن طريقه، وصلته بعض أخبار جان جينيه. انزعج إدوارد سعيد من الإشارة العابرة، ونعته ب "الصديق"، الحامل أخبار جينيه. لا بد أن انزعاج إدوارد سعيد، جر عليه الغبن والإهمال، الذي عومل به كتابه العظيم "الاستشراق"، من فوكو، ودريدا، ودولوز، وبودريار، وبورديو، بسبب سحب الكتاب لماء وجه الغرب الاستعماري.

وللمفارقة جاك دريدا نفسه، الجزائري الأصل، عومل من ميشيل فوكو، نفس المُعاملة التي أبداها دريدا تجاه إدوارد سعيد، عندما أشار فوكو بعجرفة إلى حقيبة الكلمات اللغوية المتنقلة التي يملكها دريدا، وكأنها أوراق كوتشينة، تُفتح في كل مرة على معنى اعتباطي.

ذكرت سيمون دي بوفوار في كتابها "عنفوان الشباب"، أننا سمعنا قبل عدة أشهر حديثاً عن شاعر مجهول، اكتشفه كوكتو في السجن، وهو في نظره أعظم كاتب في هذا العصر، أو على الأقل وصفه بهذا الشكل في رسالته التي وجهها في 1943 إلى رئيس محكمة الجنح التاسعة عشرة التي كان يمثل أمامها جان جينيه، ثم استلم سارتر، مثل مقاول أرواح، فحت وردم، روح جان جينيه.

يحكي محمد شكري في كتابه "جان جينيه في طنجة"، كنتُ في مقهى سنترال مع جيرار بيتي 1968. فجأة قال: "انظر ها هو ذا جان جينيه". في عقل شكري ما قاله مسؤول في المركز الثقافي الفرنسي: إن "منْ يقترب من جينيه عليه أن يتوقع إما صفعةً أو قبلةً".