الرئيسان الفرنسي إيمانويل ماكرون والأمريكي دونالد ترامب والمستشارة الالمانية أنغيلا ميركل في احتفالات مئوية الهدنة.(أف ب)
الرئيسان الفرنسي إيمانويل ماكرون والأمريكي دونالد ترامب والمستشارة الالمانية أنغيلا ميركل في احتفالات مئوية الهدنة.(أف ب)
الأربعاء 14 نوفمبر 2018 / 20:52

ماكرون والقوميّة!

القوميّة، التي باسمها نزلت الحروب والمآسي بملايين البشر، أفتك الأسلحة في حرب كهذه يريد ماكرون وقليلون من ساسة العالم الراهن تفاديها

قد يبدو مفاجئاً لبعض المراقبين أن يتحدّث الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون بلغة الإيديولوجيا. حصل هذا في خطابه الأخير بمناسبة الاحتفاليّة الكبرى بمرور مائة عام على الهدنة، وتالياً على نهاية الحرب العالميّة الأولى. المقصود بلغة الإيديولوجيا – التي اخترقت الاحتفال – كان إشارته البالغة السلبيّة إلى القوميّة التي قدّمها بوصفها نقيض الوطنيّة وعدوّها. فهو، هنا، استعار ذاك المفهوم الشهير في الثقافة السياسيّة الأوروبيّة: إذا كانت الوطنيّة تعني حبّ الوطن، فإنّ القوميّة تعني كراهية الآخرين.

ما قد يضاعف الشعور بالمفاجأة أمور ثلاثة: وجود زعيمين قوميّين وشعبويّين هما الرئيسان الروسيّ والأمريكيّ فلاديمير بوتين ودونالد ترامب في صدارة المدعوّين. هكذا وجد ترامب نفسه، ما إن عاد إلى الولايات المتّحدة، يردّ، على عادته، بسيل من التغريدات على خطاب ماكرون ومواقفه الأخيرة. أمّا الشيء الثاني فكان دور المستشارة الألمانيّة أنغيلا ميركل التي يُفترض أنّها تمثّل الطرف المهزوم في الحرب العالميّة الأولى، أي بلدها ألمانيا. لقد تصرّفت ميركل كشريكة في الانتصار فيما استضافها ماكرون إلى هذه الشراكة لأنّ الإثنين اعتبرا الحرب حرب قيم، لا حرب دول وقوميّات. وأخيراً، فأنّ المنتصر، أي ماكرون بوصفه ممثّل فرنسا، هو مَن ندّد بالقوميّة ونبّه إلى مخاطرها وأكلافها الإنسانيّة الباهظة، كما لو أنّه يسأل: أتريدون تكرار ذاك الماضي بحروبه وضحاياه بالملايين؟ هذا، بالطبع، ليس خطاب الانتصار القوميّ المعهود.

والحال أنّ القوميّة عرفت في التاريخ الأوروبيّ طورين شديدي الاختلاف، واحداً مبكراً نشأت فيه الدول والوطنيّات والأسواق التي تجاوزت التفتّت الدينيّ والجهويّ والإثنيّ لصالح مركز وسيادة وطنيّين. أمّا الثاني فكان ذاك الطور المتأخّر زمناً، والمحتقن بفعلٍ من تأخّره هذا كما بفعل حرمانه المستعمرات والنفوذ في الخارج. لقد كان قيام الوحدتين الألمانيّة والإيطاليّة في الثلث الثالث من القرن التاسع عشر النموذج الحيّ عن هذا الطور الذي ترتّبت عليه الحروب والمآسي الإنسانيّة الكثيرة.

أمّا في "العالم الثالث"، فقد قيل مراراً إنّ قوميّات المضطهَدين مبرَّرة ومُحقّة على عكس قوميّات الدول الاستعماريّة المضطَهِدة لسواها من الشعوب والأمم. لكنّ التجارب الكثيرة جاءت لتؤكّد خطر هذه النظريّة من وجهين على الأقلّ: فمن جهة، نشأت في "العالم الثالث" أنظمة قوميّة كان أبرز ما فعلته مصادرة الحياة السياسيّة ومنعها عن شعوبها، وإنزال العسف بهذه الشعوب بذريعة امتلاك الأنظمة شرعيّة النضال القوميّ ضدّ الاستعمار. فإذا ما لاح احتمال تدخّل خارجيّ لرفع سيف القمع عن الشعب، تذرّع النظام بمبدأ السيادة القوميّة التي يحتكر تمثيلها والنطق باسمها. أمّا من جهة أخرى، فكان تعامل الأنظمة القوميّة والأمنيّة مع أقلّيّاتها، الإثنيّة أو الدينيّة أو المذهبيّة، تعبيراً واضحاً عن عدم احترامها مبدأ وحدة الشعب الذي تدّعيه، وإمعاناً في تكريس التفاوت المتراكم والموروث عن أزمنة تاريخيّة سابقة.

والآن تلوح فرصة للتطوّر بقليل من القوميّة، أو من دون قوميّة متى توافر هذا الاحتمال. وهو ما يحضّ عليه تعاظم هائل في الثراء أحدثته العولمة وتقدّم العلوم والتقنيّة على نحو يلحّ على ضرورة التوزيع الأعدل لتلك الممكنات. هنا، نقع على واحد من أسباب انبعاث الشعبويّة في أرجاء واسعة من العالم، أرجاءٍ شاءت أن تعتصم بالماضي في حربها لمنع المستقبل.

والقوميّة، التي باسمها نزلت الحروب والمآسي بملايين البشر، أفتك الأسلحة في حرب كهذه يريد ماكرون وقليلون من ساسة العالم الراهن تفاديها.