لبنانيون يرفعون أعلام بلادهم (أرشيف)
لبنانيون يرفعون أعلام بلادهم (أرشيف)
الأربعاء 21 نوفمبر 2018 / 20:40

على هامش الاستقلال 75

في غمرة الاحتفال اللبنانيّ الصاخب بالذكرى الـ 75 لاستقلال البلد، يتبدّى الفارق بين الواقع الفعلي والصراخ الاحتفالي أكبر من أي وقت سابق.

أين تكمن مسؤوليّة اللبنانيّين عن أنفسهم وعن بلدهم؟ كيف يضبطون تغليبهم للطائفة، وما يترتّب على ذلك من ارتهانات إقليميّة، بحيث تُترك فسحة -ولو ضئيلة – لحياة سياسيّة وطنيّة؟

 فنظرية "الحكم القوي" التي رفعها عهد الرئيس ميشال عون عالياً، تتكشف عجزاً متواصلاً عن حل أي من المشكلات المُلحة اليوم. في الوقت نفسه، وبعد كل المعاناة التي استغرقها انتخاب رئيس للجمهوريّة في 2016، يقف البلد مكتوف اليدين حيال تشكيل حكومة جديدة كُلف بها الرئيس سعد الحريري.

هنا تنفرج صورة الإجماع اللبناني المفقود في أدنى حدوده وأبسطها، ما يعطل كل رهان لفظي على "قوة" الدولة، كطرف تحكيمي أعلى، كائناً مَن كان المتربع على سدّتها.

إلى ذلك، الوضع الاقتصادي، الذي تضغطه المديونية الباهظة والفساد المستشري، في غاية التردي.

الخوف مما سيتأدى عن العقوبات الأميركية على إيران، وحزب الله، وعن التعامل مع العقوبات، يزيده تردياً. الخدمات، على أنواعها، ما تعلق منها بالتعليم، أو الصحة، أو البيئة، أو الطاقة...، بالغة السوء.

الشبيبة توالي الهجرة إلى الخارج، يقيناً منها بأن فرص العمل مسدودة تماماً في وجهها. الحرية، حيث لا يزال لبنان متقدماً على عموم المنطقة، تتعرض لقضم رقابي متواصل، بعضه مصدره السلطة السياسية والبعض الأكبر مصدره المرجعيات الدينية والطائفيّة.

المشاعر العنصرية تتعاظم في هذه الغضون، في موازاة تضخّم الوهم القائل إن "الأغراب" و"الأجانب" هم سبب ما آل البلد إليه.

هذه اللوحة الداكنة يمكن ردها إلى عوامل عدّة تتقاطع في ما بينها، وأحياناً تتكامل وتنسجم. إلا أن المؤكد أن العامل الأهم يبقى الاستفحال الطائفي الذي بات يتخذ أشكالاً متزايدة التوكيد والفجور: يكفي القول، مثلاً لا حصراً، إن تجروء "حزب الله" أخيراً على تسمية مَن يمثل الطائفة السنية في الحكومة يُعد نقلةً نوعيةً في ذاك الاستفحال. ولا نضيف جديداً إذا قلنا إن شيئاً كهذا ما كان ليحصل لولا الاستقواء بسلاح لا يملكه إلا الحزب المذكور.

يضاعف المأساة اللبنانية تحولات إقليمية ودولية عدة تحيط بالبلد: ففضلاً عن تراجع القدرة الذاتية على أداء دور الوسيط بين "الشرق" و"الغرب"، علماً أن الطلب على الدور نفسه تراجعَ كثيراً، تغيرت معاني "الشرق" و"الغرب" نفسيهما في العقود الأخيرة، فالأول "الشرق" انفجرت نزاعات دوله وجماعاته بحيث بات من الصعب الاستقرار على أي تعريف جامع له، ناهيك عن توقع سياسات وقضايا جامعة، فيما الثاني "الغرب" بات اهتمامه بـ "صد الهجرة واللجوء" عن بلدانه وبـ "مكافحة الإرهاب" يفوق كثيراً اهتمامه بدعم الديمقراطيّة والحض على توسيع رقعتها.

وهذا إنما يعيدنا إلى السؤال الأول الذي هو، في لبنان، سؤال الأسئلة جميعاً: أين تكمن مسؤوليّة اللبنانيّين عن أنفسهم وعن بلدهم؟ كيف يضبطون تغليبهم للطائفة، وما يترتب على ذلك من ارتهانات إقليمية، بحيث تُترك فسحة، ولو ضئيلة، لحياة سياسية وطنية؟.

لقد كانت السنوات الـ 75 التي انقضت على نيل الاستقلال سنوات تنابُذ ونزاع أكثر كثيراً ممّا كانت سنوات بناء لوطن ولمجتمع سياسي. ويُخشى، إذا استمرّت الأمور على حالها، واستمر التغليب الإطلاقي للطائفي على الوطني، دون أي مراجعة للذات وأي ارتفاع إلى مستوى المسؤولية المفترضة، أن يتحول الاحتفال بالاستقلال في الأعوام المقبلة إلى "احتفال" بانهيارات لا تحجبها أي خطابة إنشائية وأي عزف صاخب لنشيد وطني.