تعبيرية.(أرشيف)
تعبيرية.(أرشيف)
الجمعة 23 نوفمبر 2018 / 18:56

لا تخافي

كنساء عربيات، ليست تجاربنا مماثلة مع الخوف، سواء تعرّضنا فعلياً لانتهاك سافر لأجسادنا وكرامتنا وخصوصيتنا وأمننا، أو حتى إذا عانينا إحدى تلك المخاوف الصغيرة التي تدبّ تحت جلودنا

أدرت رأسي نحو الرصيف الضيق المحاذي لسيارتي حين سمعت وقع أقدام راكضة. كان رجلاً نحيلاً، يعدو في نفس الاتجاه التي تقف فيه المرأة الوحيدة على الرصيف آنذاك، والتي شاءت الصدف أن تكون غربية شقراء.

التفتت لتنظر إليه، ورغم حلول الظلام، فقد لاحظت توحّد تعابير الهلع بين وجهي ووجهها كأنما تواصلنا عبر تخاطر الأفكار. تمسّكت بحقيبتها، وحاولت بأقصى سرعة يسمح لها به كعبها بأن تبتعد عن طريقه.

ولا بد وأن تخاطر الأفكار قد أشعر كلتينا بالسُخف حينما مرّ الرجل بسلام بجانب المرأة، وواصل ركضه نحو وجهة أخرى لا يعلمها إلا الله.

تنفست الصعداء، ومضيت شاعرة بالقليل من الإحراج بالنيابة عن هذه الغريبة التي لا أعرفها. والكثير من الحسد باتجاهها.

فأتخيل بأنها ستؤوي الليلة إلى منزلها، أو حتى تطير عائدة إلى بلادها إذا كانت سائحة، وستتمكن من مشاركة أهلها وأصدقائها بشكل عارض، وخال من الحاجة إلى الحذّر وإعادة الصياغة والتكلّف، تفاصيل اللحظات المقلقة تلك –في مخيلتينا، على الأقل-. ستخبرهم عن ردة فعلها الذعرة فيما تزيل مساحيق التجميل عن وجهها، أو تعيد ترتيب الألبسة في خزانتها. وسيضحكون معاً، وينعتونها بالخرقاء.

كنساء عربيات، ليست تجاربنا مماثلة مع الخوف، سواء تعرّضنا فعلياً لانتهاك سافر لأجسادنا وكرامتنا وخصوصيتنا وأمننا، أو حتى إذا عانينا إحدى تلك المخاوف الصغيرة التي تدبّ تحت جلودنا، وتجعلنا في توجس دائم. وللأسف، قد لا يفهم الرجال هذه الأسطر من مقالتي، فنحن وحدنا من نتدرب على الخوف من سماع خطوات الأقدام خلفنا، أو الخوف من استقلال وسائل المواصلات ليلاً.

أو حتى ذلك الخوف السخيف من دخول البقالات بمفردنا، وذلك لأن والداتنا –سامحهن الله- أخبرننا في صغرنا بأن مُلّاكها سيغلقون علينا الأبواب، وسيقومون بذبحنا كالنعاج!

إننا نتعلّم في مرحلة ما أن نتحفّظ على كل هذه المخاوف بشكل غريب ومفرط في سريته. نحن لا ننكرها أو نقلل منها أو نستخف بها، بل لا نعترف بوجودها مطلقاً، وذلك لأن التعبير عنها –حتى حينما تكون قلقاً عابراً غير مبرر- سيضعف موقفنا أكثر وأكثر.

ولا أتذكّر مع هذه المقارنة سوى تجربة صديقتي التي توجست من رجل طاعن في السن شاركها ركوب المصعد، واشتبهت في محاولته التحرش بها.
فعلى الرغم من تيقنها آنذاك بأن "كازانوفا العصر الحجري" لم يكن ليجرؤ على التمادي، فقد ارتكبت خطأ مروعاً حينما أخبرت شقيقتها الكبرى عن عدم ارتياحها من نظراته وابتسامته، لتكتشف أن الضريبة ستكون حرمانها من الخروج بمفردها.

إن التعبير عن الخوف –مهما كان تافهاً- لا ينتهي بالضحكات ههنا، بل هي مخاطرة غالباً ما تنتهي بتقليص مساحة الحرية المسموح للضحية بها، لتتمنى بأنها لم تشعر بالخوف حينما كانت تقف على ذلك الرصيف الذي يبدو الآن على ضيقه أكثر اتساعاً من عالمها.