السبت 24 نوفمبر 2018 / 18:58

السعودية رقم صعب

كانت الصدمة عنيفة على الإعلامين التركي والقطري، عندما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن موقفه الأخير الحاسم فيما يتعلق بالموقف من السعودية وطريقة التعامل معها على خلفية أحداث القنصلية في إسطنبول ومقتل الكاتب جمال خاشقجي. لقد كان الأتراك والقطريون ينتظرون، وبشوق بالغ، أن يعلن الرئيس الأمريكي عن سلسلة من العقوبات تأخذ مجراها نحو التطبيق على المملكة، لكن ترامب خيّب ظنونهم، وكانت خيبتهم كخيبة رجل خسر كل ما يملك في سوق البورصة.

الإعلام القطري بالذات لديه نزعة صبيانية مجنونة، تذكر بالأطفال الذين يرمون الحوانيت بالحجارة علّها تُكسّر زجاج وواجهات الدكاكين، ثم يولون هاربين. لذلك كانت قراءتهم لخطاب ترامب تدور في نفس المضمار ولم تخرج عن الدائرة الصبيانية، صبية خسروا كل ما بذلوه منذ بداية أكتوبر، ثم تحطمت كل أحلامهم على صخرة صلبة. لم أسمع منهم رجلاً عاقلاً أو امرأة، ولا مِن ضيوفهم، من قرأ هذا الخطاب كما ينبغي أن يُقرأ، وإنما انفجروا باكين، تماماً مثل طفل انتزع أخوه لعبته منه بالقوة. لا شيء سوى صب اللعنات والتعبير الساذج البدائي عن الغضب الشديد، وسرد للحجج التي يظنونها عقلانية، وأنها تؤدي في النهاية إلى أنه يجب فرض العقوبات العالمية على السعودية.

دعونا من الصبية. الرئيس ترمب رجل ينطلق من سياسة واقعية براغماتية، وما يُحركه هو مصلحة الولايات المتحدة، ومصلحة الولايات المتحدة هي مع الدول المعتدلة في الشرق الأوسط مثل السعودية والإمارات ومصر، وليست مع مجانين العظمة الغارقين في أحقاد تاريخية، ولا الصبية.

من استمع لخطاب الرئيس بدون انحياز، فسيجد أن ما قرره أخيراً، ولم يقرره وحده، بل معظم أعضاء الكونغرس معه، هو أن السعودية هي من يستطيع الاستغناء عن أمريكا وعن المعسكر الغربي كله، وليس العكس. صححوني إن كنت مخطئاً، لكن هذا هو ما فهمته من قول الرئيس: "إن نحن هجرنا السعودية، فسيكون ذلك خطأَ مريعاً. السعودية تشتري من الولايات المتحدة بمئات المليارات، وإذا توقفنا عن التعامل معهم، فسيشترون احتياجاتهم من الصين وروسيا. نحن الآن متقدمون على الصين وروسيا، وأرغب في أن أحافظ على هذا التقدم. أسعار النفط الآن ممتازة ولن أدمر اقتصاد بلدي واقتصاد العالم بالقيام بتصرف أحمق ضد السعودية".

لا يمكن لرجل أعمال ناجح وقائد عظيم مثل الرئيس ترامب أن يعلن عن موقف عدائي للسعودية، لأنه لو أعلن عن عقوبات من أي نوع، لكان في هذا نهاية العلاقة التاريخية التي ابتدأت مع الرئيس روزفلت والملك عبد العزيز على سفينة حربية في 20 فبراير 1945 فالسعودية لن تقبل بطبيعة الحال أن يقيم أحدٌ العقوبات عليها وستتجه – كما قال الرئيس ترامب – لتقيم حلفاً أو أحلافاً جديدة مع روسيا والصين وغيرهما، وبالتالي ستخسر الولايات المتحدة الكثير بسبب خطوة متهورة كهذه. حقيقة، أنا لا أدري هل ستكون العلاقات مع الصين وروسيا أفضل وأقل تكلفة بالنسبة للسعوديين أم لا، إلا أن كثيراً من الخبراء لا يرون أن تقدم السعودية على مثل هذه النقلة، ما دام أنها ليست مضطرة، لكن فرض العقوبات سيدفعها لأن تتخذ هذا القرار الذي قد يتبين لنا فيما بعد أنه القرار الأفضل. على كل حال، مَن تحالف السعودية، الروس أم الأمريكيين؟ هذا قرار سعودي بامتياز.

الأمر الآخر أن الولايات المتحدة تتجه لفرض عقوبات على إيران، وهذا يتطلب تغطية ما تصدره إيران من نفط، وستقوم هنا حاجة كبيرة للسعودية بطبيعة الحال. وقبل هذا، السعودية التي تنتج 10 ملايين برميل من النفط يومياً، وتمارس دوراً ضاغطاً للمحافظة على أسعار النفط في فلك معين.

 بالنسبة لنا دوران سعر النفط ما بين 70 دولاراً و60 دولاراً مناسب جداً: سيبقى عجلة التنمية سائرة بسرعة معقولة وسيفي بكل احتياجات الدولة، وفوق ذلك سنحافظ على زبائن المملكة بحيث لا يعيدون محاولة استخراج النفط الصخري الرخيص. الكل سعيد بالدوران حول هذا السعر، ما عدا المجانين من مراهقي السياسة الذين يريدون أن نوقف تصدير النفط عن الدول العظمى أو أن نرفع سعر البترول لحد 200 و300 دولار وأن نستخدم النفط كسلاح في قضايا سياسية، وهذه كله جنون، ومن يتداوله لا تهمه مصلحة المملكة ولا مصلحة العرب ولا الاستقرار السياسي والاقتصادي لمنطقتنا.

لعلي قد قلتُ بعض ما جال في عقول المراقبين والمحللين، ولعلهم قد لاحظوا مثلي أن خطاب الرئيس ترامب قد جعل الغافل ينتبه، لما فيه من شفافية وواقعية، أحياناً يتأثر الناس بالخطاب الغوغائي الإعلامي فيندفعون وراءه دون تمييز، لكن الرئيس ترامب قد أعاد القطار إلى سكة الحديد: السعودية رقم صعب لا يمكن تجاوزه بأي حال من الأحوال.