قطب صناعة السيارات كارلوس غصن الموقوف في اليايان.(أرشيف)
قطب صناعة السيارات كارلوس غصن الموقوف في اليايان.(أرشيف)
الأربعاء 28 نوفمبر 2018 / 21:02

كارلوس غصن بين فولكلورين

ما من شكّ في أنّ هذين الفولكلورين يعبّران، فضلاً عن أمور كثيرة أخرى، عن نزاع اللبنانيّين في ما بينهم، وعن اختلاف مثالاتهم وتصوّراتهم. ولبنان، مثله مثل كلّ بلدان العالم، يضمّ بعض أفضل البشر مثلما يضمّ بعض أسوأهم

اعتقال رجل الأعمال كارلوس غصن في طوكيو كان له صدى، بل دويّ، لبنانيّ. الرجل، بعد كلّ حساب، لبنانيّ الأصل، حافظ على صلاته الماليّة والاجتماعيّة ببلد المنشأ. وهو لا يزال يحتفظ بجنسيّته اللبنانيّة، فضلاً عن جنسيّة فرنسيّة وأخرى برازيليّة (حيث ولد). إلى ذلك، فلديه أراضٍ وعقارات وأسهم كثيرة في لبنان حيث عاش طفولته وأنجز دراسته الابتدائيّة.

نجاحات غصن الماليّة ودوره في إنقاذ شركة ومصنع "نيسان" للسيّارات جعلته برهاناً، لمن يريد البرهان، على "النجاح اللبنانيّ في العالم"، لا سيّما نجاح "البيزنس اللبنانيّ". يحصل هذا في وقت مأزوم ومُتردٍّ تعزّ معه أسباب التباهي بالنجاح. هكذا صدر، في العام الماضي، طابع بريديّ في لبنان يحمل رسم غصن. وثمّة بين السياسيّين من رشّحه لرئاسة الجمهوريّة اللبنانيّة، بالطبع بعد انقضاء ولاية الرئيس ميشال عون. وزير الخارجيّة جبران باسيل، فضلاً عن سياسيّين آخرين، محضوا كارلوس غصن الدعم الكامل. باسيل أصدر توجيهاته لسفير لبنان في طوكيو بأن يقف إلى جانبه ويدافع عنه بكلّ ما أوتي من قدرة.

سقوط غصن، بعد اتّضاح فساده، حرّك عدداً من نظريّات المؤامرة: "لا بدّ أنّ الأميركيّين تآمروا عليه"... "لا بدّ أنّ اليهود هم من أوقعوا به". هذا بعض ما تردّد في بيئات لبنانيّة لم تهضم سقوط بطلها واتّضاح أنّه فاسد آخر.

في هذا الدفاع عن غصن، وهذا الاستنفار لنظريّات المؤامرة، يقف الفولكلور الوطنيّ اللبنانيّ المسكون بالتعالي الشوفينيّ: لبنان بلد نجاح وعبقريّة، بل النجاح والعبقريّة لبنانيّان. كلّ لبنانيّ مُطالَب بأن يدافع عن كلّ لبنانيّ آخر ظالماً كان أم مظلوماً.

هذه السرديّة القديمة نسبيّاً، الريفيّة والأبرشيّة، عزّزها في الآونة الأخيرة عنصران: أنّ لبنان يتّجه بسرعة نحو الوقوف في صفّ "الدولة الفاشلة". أوضاعه الاقتصاديّة والسياسيّة، الاجتماعيّة والبيئيّة، ترشّحه لذلك. العنصر الآخر، تعاظم التمييز العنصريّ في لبنان حيال غير اللبنانيّين، لا سيّما السوريّين والفلسطينيّين والعمّال الأجانب. هؤلاء الأخيرون هم الأدنى الذين لا تصدر الأعمال الخطيرة أو الوضيعة إلاّ عنهم!

مقابل هذا الفولكلور تحرّك فولكلور آخر يتحكّم بأصحابه حقد قديم ومؤصّل ضدّ التركيبة اللبنانيّة بوصفها تعدّديّة، نابذة لإيديولوجيا الهويّة، ومؤكّدة على الحياة البرلمانيّة والحزبيّة، لا على العنف والأمن والعسكر والقضايا "المقدّسة".

الناطقون بلسان الفولكلور الثاني وجدوا في اعتقال كارلوس غصن ضالّتهم: هذا هو لبنان، وهؤلاء هم اللبنانيّون الذين يُحتفى بهم وبنجاحهم.

في هذه الإدانة الشاملة والكاسحة للبنان واللبنانيّين، كان دعاة الفولكلور الثاني يؤكّدون كم أنّهم لا يطيقون الفساد والتحايل على القوانين. إنّ المواطن المثال، كما يتصوّرونه، هو من يتعفّف كلّيّاً عن أفعال كالتي ارتكبها كارلوس غصن.

مع هذا، فهؤلاء لا يشملون بغضبهم لبنانيّين شاركوا في شبكات تهريب للمخدّرات اتُّهم "حزب الله" برعايتها، أو انخرطوا في أعمال إرهابيّة تأدّى عنها موت مدنيّين أبرياء في بلدان عديدة على سطح الكوكب. هؤلاء "المجاهدون" و"المناضلون" لا يلطّخون صورة لبنان كما يفعل كارلوس غصن، بل يرفعون اسم بلدهم عالياً.

ما من شكّ في أنّ هذين الفولكلورين يعبّران، فضلاً عن أمور كثيرة أخرى، عن نزاع اللبنانيّين في ما بينهم، وعن اختلاف مثالاتهم وتصوّراتهم. ولبنان، مثله مثل كلّ بلدان العالم، يضمّ بعض أفضل البشر مثلما يضمّ بعض أسوأهم، وفي عداد هؤلاء الأخيرين يقف غصن مثلما يقف المهرّبون والقتلة الكثيرون الذين يجدون دائماً من يدافع عنهم.