تاجر يعرض قلنسوات يهودية للبيع في ألمانيا (أرشيف)
تاجر يعرض قلنسوات يهودية للبيع في ألمانيا (أرشيف)
الأحد 2 ديسمبر 2018 / 19:46

العمى الأخلاقي والسياسي..

ألغت شبكة سي إن إن الأمريكية، قبل ثلاثة أيام، عقدها مع أحد مراسليها مارك لومنت هيل، بذريعة "العداء للسامية"، بعدما وردت على لسان المذكور في جلسة خاصة في الأمم المتحدة، عبارة دعا فيها إلى الحرية في فلسطين "من النهر إلى البحر".

مسألة "العداء للسامية" لم تكن مكوّناً مركزياً في الخطاب السياسي والإعلامي للدولة الإسرائيلية في العقدين الأوّل والثاني بعد قيامها، بل حدث هذا الأمر بطريقة متدرّجة

وقبل هذه الحادثة بأسابيع قليلة، نشبت عاصفة صغيرة عندما حذفت شركة خدمات سياحية أمريكية، تدعى إير بي إن بي، المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية من قائمة الأماكن المرشحة للإقامة والاستجمام.

ورُفعت قضايا في محاكم أمريكية، إضافةً إلى حملة تشهير إعلامية في إسرائيل والولايات المتحدة ضد الشركة المذكورة بتهمة "العداء للسامية".

وما يجمع بين الحدثين أن كليهما ينتمي، في قاموس الدعاية الإسرائيلية، وفي أوساط جماعات الضغط الإعلامية والسياسية المؤيدة لإسرائيل، في الولايات المتحدة، إلى عنوان عريض اسمه "العداء للسامية".

ولو افترضنا جدلاً، أن أحداً من آباء الدولة الإسرائيلية نفسها، بمن فيهم الذين وقعوا إعلان قيامها في  1948، عاد إلى الحياة اليوم، فإن ما طرأ على القاموس التقليدي المألوف "للعداء للسامية"، كما كان معروفاً في زمنه، من تغيير وتعديل، على مدار سبعة عقود مضت، سيتجلى في نظره مفاجأةً غير متوقعة.

ولا يتسع المجال، هنا، لاختزال هذا التاريخ، في أسطر قليلة، بل يكفي القول إن مسألة "العداء للسامية" لم تكن مكوناً مركزياً في الخطاب السياسي والإعلامي للدولة الإسرائيلية في العقدين الأول والثاني بعد قيامها، بل حدث هذا الأمر بطريقة متدرجة.

كان اختطاف النازي أدولف أيخمان في الأرجنتين، ومحاكمته وإعدامه في القدس، في أوائل ستينيات القرن الماضي، محطة أولى بارزة، ولكن الانقلاب الحقيقي وقع بعد حرب 1967، وتكرس مع وصول اليمين الإسرائيلي، بزعامة مناحيم بيغين، إلى سدة الحكم في 1977. فمنذ ذلك التاريخ احتلت مسألة "العداء للسامية" مكان الأولوية في الثقافة السائدة، وتحولت إلى سلاح أيديولوجي، وإعلامي، وسياسي في يد الدولة الإسرائيلية.

ولنلاحظ هنا، أن التدرج وقع بعدما شعر الإسرائيليون أنهم تجاوزوا مرحلة الخطر الوجودي، وتمكنوا من إلحاق هزيمة فادحة بالعرب في حرب 1967، وبعدما أصبحوا، في نظر الأمم المتحدة، والمجتمع الدولي، قوة احتلال تنتهك القانون الدولي، وتسيطر على أراضٍ عربية، في سيناء والجولان، والضفة الغربية، وقطاع غزة، أي كل ما تبقى من فلسطين الانتدابية بعد 1948.

بمعنى أكثر مباشرة: ثمة علاقة متبادلة بين مدى الإحساس بالقوة، ودرجة وأولوية العداء للسامية في الديانة المدنية للإسرائيليين، وخطابهم عن أنفسهم، وعن العالم.

وأسهمت هذه العلاقة في تعديل وتوسيع مفهوم ودلالات العداء للسامية: من النظر إلى اليهود باعتبارهم جماعة تعرضت للاضطهاد، على مدار قرون، نتيجة خصوصيتها الدينية والعرقية، خاصةً في أوروبا، إلى التعامل مع كل نقد مُحتمل للأيديولوجيا الصهيونية، والدولة الإسرائيلية، على أنه نوع من العداء للسامية.

اذاً، وعلى خلفية ما طرأ من تعديل على مفهوم ودلالات العداء للسامية، يشعر الإسرائيليون بأنهم فوق النقد، حتى وإن تصرفوا بعدوانية مُفرطة، وانتهكوا ما لا يحصى من القوانين الدولية.

ففي أعقاب الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 1982، وموجة الاحتجاج التي أعقبته في مناطق مختلفة من العالم، نتيجة ما نجم عنه من دمار وضحايا، قال بيغين في تصريح ذائع الصيت: "العالم هو الذي يجب أن يطلب المغفرة من اليهود".

وفي الوقت الحاضر تُعامل الأمم المتحدة، والكثير من المنظمات الدولية ذات الصلة، كلما تصدت للنظر في مصادرة الأراضي، والاستيطان، وانتهاك حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، من جانب الإسرائيليين، بوصفها دفيئات معادية للسامية.

ومنذ صعود حكومة اليمين والمستوطنين، بزعامة نتانياهو، تصاعدت وتيرة التوظيف الأيديولوجي والسياسي للعداء للسامية بشكل أثار حتى امتعاض بعض الإسرائيليين.

فأبراهام بورغ، مثلاً، وهو أحد أبناء العائلات الصهيونية الأشكنازية العريقة، وشغل في الماضي رئاسة الكنيست، والمنظمة الصهيونية العالمية، نشر قبل سنوات كتاباً بعنوان "لننتصر على هتلر" للتدليل على حقيقة أن أيديولوجيا عبادة الهولوكوست السائدة، التي تُسهم في تحويل إسرائيل إلى "غيتو" من طراز جديد، وتُبرر انتهاك حقوق الفلسطينيين، أصابت الإسرائيليين بالعمى الأخلاقي والسياسي، مع كل ما لأمر كهذا من مخاطر وأضرار تلحق بالإسرائيليين أنفسهم.

وفي السياق نفسه، حاول المؤرخ الإسرائيلي توم سيغيف، منذ سنوات أصبحت بعيدة الآن، في كتابه العمدة "المليون السابع"، القول إن الدرس الأهم لظاهرة العداء للسامية، التي توجتها المحرقة، لا يخص اليهود والإسرائيليين، بل البشر في كل مكان، للحيلولة دون اضطهاد أي جماعة قومية، أو عرقية، أو دينية، في أي مكان من العالم.

ومع ذلك، ما زالت العلاقة المتبادلة بين مدى الإحساس بالقوّة، ودرجة وأولوية العداء للسامية، تواصل فعلها في الواقع، بل وتزداد ضراوة.

وما من نتيجة لهذا كله سوى المزيد من العمى الأخلاقي والسياسي.