قصيدة للشاعر ة هنادي زرقة (أرشيف)
قصيدة للشاعر ة هنادي زرقة (أرشيف)
الإثنين 3 ديسمبر 2018 / 19:54

الحرب والحب

الحرب والحب لا يملكان فقط الحروف نفسها ، لكنهما يتباعدان من حيث يلتقيان. إنهما يتجالسان ويتبادلان الكلمات نفسها ، يتباعدان في حين لا يغدوان الشيء نفسه

هي المجموعة الشعرية الثانية أو الثالثة وهنادي زرقه تحفر في المكان نفسه. أحياناً يبدو أنها تروي نفس القصة، أو أنها تجمع عن الطريق أشياء متقاربة. لكن نخطئ إذا فكرنا أن الأشياء هي نفسها، نخطئ إذا فكرنا أن الذكريات هي نفسها، نخطئ حتى حين نظنّ أنها الحرب نفسها. لكل مجموعة حربها كما أن لكل مجموعة قتلاها، لكل مجموعة ذكرياتها. حين تستطيع شاعرة أن تكتب مجموعة كاملة عن ألزهايمر أمها، نتعجّب طبعاً من أن يكون ممكناً لألزهايمر الخانق والمظلم واللامعنى له أن يتّسع بهذا القدر، أن يخرج من حفرته وينتشر بهذا القدر، أن يكون له هذا المدى وأن يبقى مع ذلك الشيء نفسه والظلمة نفسها. كيف يمكن لشاعرة، أن تحيي الإلزهايمر وتنشره، أن تجمع أشياءه وأغراضه عن هذا العدد من الطرق، هذا العدد من الأماكن. كيف يمكن لشاعرة أن تكتب كتاباً كاملاً عن الألزهايمر، أن تصنع له محطات وشوارع وحارات، كيف يمكن أن تتجاسر على أن تخترع له عالماً أن تطلق اسمه على مدينة.

في "رأيت غيمة شاحبة، سمعت مطراً أسود" مجموعتها الأخيرة، لن ننفك نراها تتجول في المكان، ثم المكان الذي يليه، ثم في آخر قريب منه، كأنها تترسم ذات الحرب وتعيد ذلك غير مرة، ذات الحرب وهي تجرّ وراءها أثقالها، أشياءها وأغراضها وذكرياتها. صفحة بعد صفحة نشعر أننا، ونحن نقرأ، ننتقل من يوم إلى يوم، أننا نتجول في مذكرات وفي يوميات، أن المرأة السمراء الطويلة "هنادي" هي نفسها في الصفحات واليوميات، أن كل صفحة هي نهار جديد من الحرب وبداية جديدة.

نرى الأزهار تسقط فوق القبور، نرى الموتى يتجولون في الطرقات، نرى البيوت تندكّ فوق أصحابها، لكننا لم ننتبه في البداية، لم ننتبه إلا بعد حين أننا نرى الحرب تكاد تستدعي الألزهايمر والأم المصابة به، أنها تستدعي من بعيد الأب الراحل، وأن أشياء كثيرة تشبهها تنهض من الذاكرة، أماكن تتعرى وتخلو وتفرغ تحت إسمها، أشياء لا تشبهها، أشياء بعيدة من هنا وهناك تنهض من أسمالها وحطامها، الحب نفسه يصاحب الحرب من مكان إلى آخر، حب وعشاق بلا عدد يوجدون، للمفاجأة، تحت سقفها، لكنه حب لا يُستغرَب أن تستدعيه الحرب، إن فيه شيئاً من رائحتها ومن صداها.

يظن أنني لا أنتبه
يظن أنني لا أعير حديثه ما ينبغي من الاهتمام
في كل حديث يستخدم اسمي فاصلاً بين فكرتين
وأنا أضيع في حروف اسمي
دو ري مي
يتحدث عن الحرب والموت
أغمض عيني
وأسرح في أصابعه
يقول: مرت الحرب سريعاً
أقول: مرت أصابعك سريعاً على جسدي

الحرب والحب لا يملكان فقط الحروف نفسها، لكنهما يتباعدان من حيث يلتقيان. إنهما يتجالسان ويتبادلان الكلمات نفسها، يتباعدان في حين لا يغدوان الشيء نفسه.

إن اليد الإروتيكية تمر مرور اليد القاتلة، السرعة نفسها ولكن ليس الحس نفسه. يتواتر الحب في قصائد هنادي بالكثرة التي تتواتر فيها الحرب، لدرجة أننا نستطيع القول أنهما "الحب والحرب" يملكان الإيحاء نفسه دون أن يتجانسا أو يندمجا.

الحرب تغدو في لحظة، التجوال، بل الصور نفسها، تغدو البيت والمأوى وينقلاننا في الطريق ذاته إلى الأم والأب والأقارب والأهل "كانت أمكِ تطبخ أفضل منكِ، وكان غسيلها أنصع من غسيلك". عند كلام كهذا نحس أن الحرب شيء كالبيت، أن ثمة شيئاً يتجاوز الحب والحرب ويوجد قبلهما أو بعدهما هو ببساطة... الشعر.