مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ زايد بن سلطان آال نهيان طيب الله ثراه (أرشيف)
مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ زايد بن سلطان آال نهيان طيب الله ثراه (أرشيف)
الثلاثاء 4 ديسمبر 2018 / 20:01

الشيخ زايد … صانعُ كوكب الجمال

مائة عام مرت على مولد رجل كريم، اسمه الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان. ولا شك عندي أن "الشيخ زايد"، طيب اللهُ ثراه، هو واحد من أجمل وأرقى وأصلح مَن وهبتهم الحياة للبشرية منذ قرن من الزمان، في منتصف عام 1918، ذلك العام الثري الحافل بميلاد عديد من عظماء هذا العالم.

اللهَ تعالى منحه عقلَ فيلسوف وذكاءَ عالم وبصيرةَ حكيم وقلبَ عاشق وروحَ فنان. وتلك صفاتٌ قلّما تجتمعُ في إنسان واحد، وإلا صار معجزة بشرية. وكان الشيخ زايد بالحقّ معجزةً بشرية

الرجل البسيط الحكيم الذي نجح في أن يصنع معجزة حضارية حقيقية في أرض ميلاده، التي تحولت خلال سنوات من بادية صحراوية قاحلة، إلى معجزة حضارية تمثل قِبلةً وحُلماً ومشعلاً للدهشة والتحضّر.

استلم الرجل أرضاً قفراً لا زرع فيها ولا ماء، فسلمها للعالم بعد برهة، واحدةً من أرقى وأنظف وأعدل دول الأرض وأكثرها تحضراً وبهاءً وثراءً. ولهذا لم يكن غريباً أن يُطلق عليه الكاتب الفرنسي كلود موريس، لقب: "صقر الصحراء" ويؤلف عنه كتاباً بالعنوان نفسه ليحكي حكايته للعالم.

وشهد الجنرال البريطاني هيو بوستيد، الذي عاش في المنطقة سنوات طوالاً، بأن الشيخ زايد استطاع أن يصنع خلال سنوات حكمه إمارة العين في منتصف الأربعينيات نموذجاً محترماً لشخصية القائد الوطني الذي خرج من عباءة شيخ القبيلة ليتحمل مسؤولية القيادة والريادة لدولة تتكون من سبع إمارات، لتغدو أول فيدرالية عربية متحدة.

وقد يندهش المرء من مشهد الجماهير الغفيرة التي تحتشد حول الشيخ زايد في تجواله وترحاله طوال حياته، والنظرات ملأى بالحب والإعجاب. ولكن الدهشة تزول حين نقرأ التاريخ ونعلم كيف شق زايد ينابيع المياه لري الحقول في الأرض البور الصحراوية الجافة، حتى شاع الأخضر وعم الرغدُ وتحققت المدنية في أرقى صورها.

تزول الدهشة حين نعرف كيف كان يشترك مع البدو في حفر الآبار بيديه وشق الجداول، وكيف ظل طوال عمره، على عظمته، يجالس البسطاء كرجل كريم لا يعرف الغرور ولا الكبر، وهو الدرس المقدس الذي علمه لأبنائه من بعده فساروا عليه شيوخاً كراماً، لم يأخذ منهم الكِبر أي مأخذ. لكن نبله لم يقف عند حدود أرضه وظلال مواطنيه، بل تخطى ذلك الحاجز الجغرافي والإنساني ليشمل الأرض العربية بشساعتها والأمة العربية بأسرها.

فهل ينسى ناسٍ كلمته الشهيرة: "النفط العربي ليس أغلى من الدم العربي"؟، ثم أعقب الكلمةَ الخالدةَ بالفعل الخالد، فقطع البترول عن أمريكا الداعمة لإسرائيل، أثناء حربنا معها.

وُلد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رئيس دول الإمارات العربية المتحدة في 6 مايو(أيار) عام ١٩١٨، ورحل عن عالمنا في 2 نوفمبر(تشرين الثاني) 2004. لكنه ما بين هذين اليومين، صنع ما تصنعه مؤسسات وحكوماتٌ ودول في قرون طوال من العمل والجد والكد والجدية والإصرار، ليس على النجاح، بل على التفوق والامتياز.

لم يحصلِ الرجل من التعليم إلا ما يتعلمه الطلاب في الكتاب، لكن اللهَ تعالى منحه عقل فيلسوف وذكاءَ عالم وبصيرةَ حكيم وقلبَ عاشق وروح فنان. وتلك صفات قلما تجتمع في إنسان واحد، وإلا صار معجزة بشرية.

وكان الشيخ زايد بالحق معجزةً بشرية. وعل كلامي عن الرجل يحملُ صدق مَن عايش وحميمة مَن لمس، وموضوعية من تعامل، وليس غيبية من سمع وافتراضية مَن قرأ. فقد شاءت أقداري أن أعيش قرابةَ العام في دولة الإمارات العربية، التي أُسميها مطمئنةً "كوكب الإمارات"، فرأيتُ بعيني ولمستُ بيدي كيف نجح ذلك الرجل العظيم في أن يُربي شعباً من المتحضرين النبلاء، فاستحق كل مواطن منهم لقبًا عزيزًا هو "أبناء زايد".

أثناء حياتي هناك، لم تستوقفني ناطحاتُ السحاب والنظام الدقيق في العمل والمرور والنظافة، بقدر ما استوقفتني ناطحاتُ السحاب "الأخلاقية" عند المواطن الإماراتي. شعب نبيل ومتحضر عرف قيمة الإنسان فقدر حق الإنسان في الحياة الكريمة، دون النظر إلى لونه أو عِرقه أو عقيدته.

لم أر جندياً يحرس كنيسة أو معبداً هندوسياً أو معبداً بوذياً. فدور العبادة، على اختلافها آمنة غير مهددة في ذلك البلد المسلم المتحضر، فعلام ترسانة الحرس؟ جرائم السرقة في دولة الإمارات تساوي صفراً، جرائم التحرش بالإناث تساوي صفراً، جرائمُ الطائفية والإرهاب تساوي صفراً، لأن القانون مطبق بحسم وحزمٍ في تلك الدولة، وعلى الجميع، المواطن والوافد، الغني والفقير، الرجل والمرأة. ذاك هو النظام الإنساني المحترم الذي وضعه الشيخ زايد رحمه الله، ويسير عليه من بعده أبناؤه وآله من حكام الإمارات.

رغم رحيل زايد عن هذا العالم قبل أربعة عشر عاماً، إلا أن ما صنعه وما شيده من قيم ومبادئ في مجتمعه، لم يخفُت بل توهج وازداد ثباتاً. ويعودُ ذلك إلى سببين. أولا أنه صنع "نظاماً"، وليس مجرد حال تزول باختفاء صانعها. وثانياً، أن أبناءه وأبناء أشقائه، القائمين الآن على حكم البلاد، آمنوا بذلك الرجل وآمنوا بحُلمه وآمنوا بتجربته الرائدة، فاعتنقوا ما اعتنق من فكر ونهج، وحافظوا على ذلك النهج، وطوّروه.

لم يصنع الشيخ زايد تجربة نجاح "One Man Show، الشهيرة في العالم العربي، التي تتلخص في أن تقوم مؤسسة على فكرة يُطلقها رجل أوحد، تنهار الفكرة والمؤسسة بمجرد زوال ذلك الرجل الأوحد، بل صنع نهجاً ومبادئ ودستوراً محكماً قوياً، لا يتأثرُ بغياب الأشخاص أو تبدل مواقعهم. رجل يجمع بين البساطة المفرطة، والحسم البالغ. البساطة المفرطة والحكمة العميق. البساطة المفرطة وبُعد النظر الثاقب.

تحيةَ احترام للزعيم العربي الكبير، الشيخ زايد، رحمه الله رحمةً واسعة بقدر ما منح العالم من جمال.

وإليه أُهدى كتابي "إنهم يصنعون الحياة" الذي صدر عن دار "روافد" عام 2018، وكتبت فيه تجربتي الحية في "كوكب الإمارات"، وكتب مقدمة الكتاب، أحدُ أبناء الشيخ الكريم، الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية الإماراتي، ووزير الثقافة والإعلام السابق.

طيب اللهُ ثرى ذلك الزعيم الكريم.