اختجاجات أصحاب "السترات الصفراء" أمام قوس النصر في باريس (أرشيف)
اختجاجات أصحاب "السترات الصفراء" أمام قوس النصر في باريس (أرشيف)
الأربعاء 5 ديسمبر 2018 / 20:37

جروح باريس الدامية

يبدو أن الأحداث تتجاوز بسرعة، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي فضّل الذهاب لقمة مجموعة العشرين في الأرجنتين، تاركاً أزمة "السترات الصفراء"، تفتك بباريس حرقاً وشغباً وتدميراً. لم تعد الأزمة تتعلق بزيادة ضريبية على الوقود، بل بشكل ما، تكشف الأزمة أصلها العميق، وهو إفقار الطبقة المتوسطة، والطبقة الدنيا، إلى حد اليأس.

ماذا تريد "السترات الصفراء"؟ الإجابة الساخرة هي: عندما أعرف ماذا أريد سأقول لك، أو عليك تخمين ماذا أريد، وأنا عليّ أن أتعرَّف في قولك على ما أريده

لا مفر من الإشارة إلى فشل النموذج الاقتصادي المعولم سيما وأن بريطانيا قد تنتظرها أحداث مُشابهة لأحداث "السترات الصفراء"، بعد خروجها الفعلي من الاتحاد الأوروبي، أو مع بقائها الضبابي تحت رحمة بروكسل حتى 2022.

كان تصميم نموذج الاقتصاد المعولم يحمل داخله استحالة نماذج أخرى، أو حتى إمكانية مشاركة بدائل تُخفف من وطأة تركيز الثروات في أيدي نخبة مالية تزداد وحشية.

بعد يوم السبت الدامي، الأول من ديسمبر(كانون الأول)، عاين الرئيس إيمانويل ماكرون الأضرار التخريبية المهينة التي لحقت بقوس النصر، من كتابات ثورية ضد ماكرون، وتحطيم جزء من وجه تمثال ماريان، رمز الجمهورية الخامسة.

يعرف الجميع أن المخربين الأناركيين الفوضويين الذين أحرقوا وحطموا وسرقوا، هم شريحة من "السترات الصفراء"، وهي شريحة تظهر في الاحتجاجات الكبرى، وماكرون نفسه لا يتهم كل "السترات الصفراء"، بأعمال التخريب، والدليل أنه كلّف رئيس الوزراء إدوارد فيليب بدعوة "السترات الصفراء" للحوار.

وُصف الرئيس إيمانول ماكرون بالعند والغرور وانعدام الحدس منذ بداية الأزمة في 17 نوفمبر(تشرين الثاني). الحديث مع "السترات الصفراء" يطمح أولاً لإثبات حسن النوايا، في تنازل كبير من إيمانويل ماكرون، عن سياساته المنحازة للأغنياء.

"السترات الصفراء" فيض من غضب شعبي، تجاوز الرئيس والحكومة والأحزاب السياسية والمعارضة.

يصعب على "السترات الصفراء" نفسها، من نشوة الغضب، تعيين من يتحدث باسمها، كما حدث قبل السبت الدامي، عندما دعي ثمانية من "السترات الصفراء"، للقاء رئيس الوزراء، فلم يذهب سوى اثنين، أحدهما خرج بعد دقائق. "السترات الصفراء" في حاجة إلى رضوخ قوي من قبل الرئيس الفرنسي.

تنازل ماكرون يجب أن يكون مدوياً، ليستوعب الغضب المتراكم. لكن يبدو أن ماكرون بعيد عن هذا التنازل كل البعد، فقد صرح قصر الإليزيه أن ماكرون بعد معاينته لجروح باريس الدامية، أنه لن يتحدث في خطاب عن أزمة "السترات الصفراء".

أعلنتْ "السترات الصفراء" يوم السبت القادم 8 ديسمبر(كانون الأول)، لمواصلة الضغط والاحتجاج، وهذه المرة الدعوة إلى قصر الإليزيه مُباشرة.

أهملت وسائل الإعلام الكبرى الفرنسية التعليق على الدعوة مدة 24 ساعة، ثم لم تستطع الصمت، فها هي صحيفة لوفيغارو، وصحيفة لوموند، تعلقان على يوم الاحتجاج القادم.

أعلنت حركة ضد إصلاحات التعليم بوحي من "السترات الصفراء"، وتأييد كبير لها، إغلاق 100 مدرسة ثانوية منذ الإثنين 3 ديسمبر(كانون الأول)، أغلقت المدارس بشكل شبه كامل.

كما أعلنت "السترات الصفراء" أيضاً، أنه منذ يوم الثلاثاء القادم، 4 ديسمبر(كانون الأول)، ستغلق الطرق لمصافي البترول وموانئ الشحن.

ومنذ فجر الإثنين 3 ديسمبر(كانون الأول)، احتلت بشكل مفاجئ، عشرات من عربات الإسعاف الطبية ساحة الكونكورد، بالقرب من الجمعية الوطنية، احتجاجاً على إصلاح النقل الصحي، أي احتجاجاً على الاقتطاع الدائم من ميزانية النقل الصحي.

وهذه نقطة هامة لأن استراتيجية سياسات العولمة منذ أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، أي منذ توحشها السافر، هي سلب وإضعاف ملكية الدولة للبنية التحتية بحجة الإصلاح.

علقت عمدة باريس آن هيدالغو في مقابلة لها على دعوات "السترات الصفراء" السبت 8 ديسمبر (كانون الأول)، بأن باريس لن تتحمل مَشاهِد أخرى من الشغب والعنف، وكأنها توجه الكلام ضمناً للرئيس إيمانول ماكرون ليفعل شيئاً. هل نحن أمام احتجاج كبير يشبه أحداث مايو (أيار) 1968؟ هل انفتح بركان غضب في الأعمار الصغيرة؟

يسأل الإعلام الرسمي الفرنسي، مثل فرانس 24، وهو إعلام ما زال في صف إيمانويل ماكرون، ولتذهب الموضوعية إلى الجحيم، قائلاً: ماذا تريد "السترات الصفراء"؟ الإجابة على هذا السؤال تتطلب العودة إلى أدبيات مايو (أيار) 1968، عندما كان الشباب الغاضب يُطلق صيحته الشهيرة الساخرة قائلاً: "لنكن واقعيين، فلنطلب المستحيل".

الإعلام الرسمي الفرنسي يقصد أن الغضب غير مبرر، يقصد أن هذا العنف غير مبرر. ماذا تريد "السترات الصفراء"؟ الإجابة الساخرة هي: عندما أعرف ماذا أريد سأقول لك، أو عليك تخمين ماذا أريد، وأنا علي أن أتعرّف في قولك على ما أريده.

تصلب الرئيس إيمانويل ماكرون على قول: "لن أرضى أبداً بالعنف". هذا ما يقوله بين الحين والآخر، وسط صمته الطويل.

اقترح قادة الأحزاب السياسية في قصر ماتينيون على رئيس الوزراء إدوارد فيليب، للخروج من الأزمة، الإلغاء الفوري لضرائب الوقود، وزيادة رواتب التقاعد، لإنعاش القوة الشرائية.

لم يجب بشيء رئيس الوزراء إدوارد فيليب، فكانت الإجابة الحقيقية هي عدم تراجع ماكرون. رفضت "السترات الصفراء" بحسب الفيغارو، نهائياً الذهاب لقصر ماتينيون الثلاثاء 4 ديسمبر(كانون الأول)، للحديث في الأزمة مع رئيس الوزراء إدوارد فيليب.

أُبلغ كريستوف كاستانير وزير الداخلية الفرنسي بأن عليه مُقابلة النقابات النيابية السبع للشرطة الفرنسية يوم الثلاثاء 4 ديسمبر  (كانون الأول) في التاسعة صباحاً، لطلب التحدث مباشرة مع الرئيس إيمانويل ماكرون، وكأن الشرطة تُرسل رسالة تحذير للحكومة وماكرون معاً، لقياس خطورة الوضع.
 
ألغى إيمانويل ماكرون وجبة الغداء مع طهاة رفيعي الذوق في قصر الإليزيه يوم الإثنين 3 ديسمبر(كانون الأول)، وذهب في منتصف النهار إلى الحي العشرين في باريس، لتناول الطعام مع الشرطة.