تعبيرية.(أرشيف)
تعبيرية.(أرشيف)
الأحد 9 ديسمبر 2018 / 19:34

كيلوغرام من الحقيقة يكفي

إذا كان الكيلو البلاتيني الذي له جسد محسوس قد تعرض للتحريف أمام أعيننا رغم كونه تحت حراسة مشددة ومشهودة أمام أعين وآذان العلم، فما بالك بكتب وقصص وروايات وأساطير يتناقلها الناس بالذبذبات الصوتية

اتخذ العِلم قراراً بالتخلي عن استخدام وحدة الكيلوغرام في حساب الأوزان الدقيقة واستبدالها بثابت بلانك بدءاً من مايو (أيار)2019. بالطبع لن يكون لهذا القرار أثرٌ يُذكر على أجهزة الميزان في محلات الفواكه ومراحيض الغرف الفندقية، لكن يتساءل البعض عن سبب هذا الانقلاب على هذه الوحدة الأثرية التي تشكل واحدة من سبع وحدات معتمدة عالمياً منذ أكثر من مائة عام، والتي تشمل المتر والثانية والأمبير وكالفن والشمعة والمول.

عند فحص القطعة الفيزيائية الأصلية للكيلوغرام والمكونة من مادة البلاتين والإراديوم، اكتشف العلماء أنها التقطت مواد دقيقة فتغير وزنها بمقدار 50 مايكروغراماً، مع العلم أنه قد تم استنساخ 40 نسخة من الأصل في شتّى أنحاء العالم. صحيح أن هذا الرقم يبدو تافهاً عند شراء كيلو من الطماطم أو البرتقال، إلا أنه يعتبر ذو قيمة ضخمة في مجالات تصنيع الأدوية وعلوم الفضاء والتكنولوجية الدقيقة.

أثناء قراءة هذا الخبر، خطرت لي بعض الخواطر أحببت أن أشاركها الأخوة القراء:
1- الإنسان يعض بالنواجذ على كل قديم مألوف حتى لو أثبت العلم خطأه أو اثبت وجود ما هو أفضل منه، فاستخدامك لمسطرة من قياس 15 سم طوال فترة وجودك على مقاعد الدراسة، لا يعني أن السنتيمتر وحدة مُطلقة الدقة لا تقبل التصحيح، فكونك عشت طويلاً وأنت تستخدم هذه الوحدة لا يستلزم بالضرورة دقتها، بل قد تعني أنك عشت فترة أطول مع ذلك الخطأ.

2- هناك أحداث تاريخية تافهة يختلف فيها من لم يروا أحداً ممن عاصر تلك الأحداث، فيختلفون في فرسخ من المكان؛ أو بُرهة من الزمان؛ أو يختلفون في حقيقة وجود شخصية تاريخية كبرى، وبالرغم من كون هذه الأحداث تبعد عنهم مئات السنين، فإنهم يجزمون ويُقسمون على حدوثها وكأنهم قد رأووها بأم أعينهم، بل يوالون ويعادون على أساسها، وأحياناً يُحدثون حمامات من الدم بسبب تصديقهم لبضعة سطور في كتاب لا يعرفون عنه سوى شهرة مؤلفه.

 في عصرنا تُصنع الأفلام الوثائقية لفك غموض وفاة قادة معاصرين ماتوا بطرق غير طبيعية، ومع تقدم التقنيات الهائلة فإن العلم يظل يفتح الباب لأكثر من احتمال، أما الاغتيالات في روايات التاريخ فهي مجزوم باسم فاعلها وكأنها منقولة لنا صوتاً وصورة ولا تفصلنا عنها سوى دقائق معدودة، فانظروا في كتب التاريخ في عبارات و"دسّ له السم" لتعلموا أن أكثرها ظنون وافتراضات، ومع ذلك فإنها قسمت الناس إلى مذاهب متناحرة.

3- إذا كان الكيلو البلاتيني الذي له جسد محسوس قد تعرض للتحريف أمام أعيننا رغم كونه تحت حراسة مشددة ومشهودة أمام أعين وآذان العلم، فما بالك بكتب وقصص وروايات وأساطير يتناقلها الناس بالذبذبات الصوتية، والتي تصعد وتهبط بحسب مزاج المُتلقي وأمانته ودرجة حفظه والعوامل البشرية التي اعترته وقت تلقي الخبر؟ وإذا كان النبي ص، قد حذر من الكذب عليه في حياته وهو موجود "فيزيائياً" بين أصحابه يرجعون إليه لتحري الصحة، فما بالك بما قد حصل بعد رحيله من هذا العالم حيث صار ما كُذب عليه أضعاف أضعاف ما قاله أو فعله؟

4- نسخ حكاية من مصدر ما لا يستلزم صحتها حتى لو تتطابقت مع أربعين حكاية موازية نُسخت من نفس المصدر، فقد يكون الخلل في المصدر نفسه حتى لو كان الناس في عدة أماكن وأزمنة يرددون نفس الحكاية، فتكرارها لا يستلزم صحتها.

بعد كل هذا الكم من الخيال والكذب والمبالغات في هذا العالم، فإن كيلوغراماً واحداً من الحقيقة الصافية يكفينا وزيادة.