الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (رويترز)
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (رويترز)
الأحد 9 ديسمبر 2018 / 17:28

قصة بطش أردوغان باقتصاد تركيا

24 - إعداد: محمود غزيّل

عاشت تركيا خلال الأشهر التي سبقت 2018 ازدهاراً اقتصادياً، أخفى بتميزه الهفوات والمشاكل التي استمرت بالتراكم خلال السنوات الماضية.

ويشبّه تقرير لوكالة "بلومبرغ"، الدولة التركية بالسيارة التي استطاعت الوصول إلى سرعات قياسية ولكن عبر تجاهل السائق لجميع أضواء التحذير، التي كانت تومض باستمرار على لوحة القيادة، حتى انتهى الأمر بتحطم مروع، إذ تعاني اليوم من انخفاض قيمة العملة الوطنية وأزمة إئتمان قاسية.

كما تعاني تركيا اليوم من موجة إغلاق واسعة لمصانع ومؤسسات من مختلف الأحجام، فيما يجاهد العدد الأكبر منها للبقاء على قيد الحياة، ويعكس مؤشر "آفاق الأسواق الناشئة" تراجع الدولة التركية إلى المرتبة الأخيرة عالمياً.

من القمة
بالنسبة للرئيس رجب طيب أردوغان، كان الوضع المالي عدوه. جاء أردوغان إلى السلطة في 2002 بعد أن جرفت آخر أزمة اقتصادية ضخمة في تركيا منافسيه، ما مكنه من الفوز في الانتخابات الوطنية والمحلية كافة منذ ذلك الحين، على حساب وعوده برفع مستويات العيش. لكن 2018، كان العام الذي انهار فيه مشروعه الاقتصادي بشكل مروّع، بعد أن بناه في المقام الأول على "الأموال السهلة".

في السنوات الأولى من حكم أردوغان، شعر السكان بالبحبوحة الاقتصادية. توسّعت المصانع وازدادت فرص العمل، إلا أن الديون كانت تتراكم بشكل مستمر، لاسيما أن أغلب تلك الشركات عمدت إلى التوسعة سعياً للتبجح أمام الآخرين.

ويعتبر ما حصل مع أغنى رجل في تركيا أحد تلك الأمثلة، إذ عمد مورات أولكر، إلى التباهي في 2014 بشرائه شركة "يونايتد" للبسكويت لقاء 3.1 مليار دولار أمريكي، أضخم ملف استحواذ في تركيا، ومن ثم الادعاء أنه استحصل على ذلك المبلغ في مجرد 9 أيام من مصارف محلية وعالمية.

ملياردير آخر، فيريت شاهينك، كان يحاول الانتقال من القطاع المصرفي إلى قطاع الفندقي، فعمد إلى شراء عدد من الفنادق الفاخرة في جميع أنحاء أوروبا. وفي أواخر يناير (كانون الثاني) من العام الجاري، افتتح في نيويورك فرعاً لسلسلة مطاعم شرائح لحم، حيث يعمل فيها اليوم رئيس الطباخين "سولت باي" - "حبيب الملح".

ويؤكد التقرير الاقصادي أن الشركات التركية لم تستطع تحقيق الكثير سوى عبر الاستدانة بالدولار الأمريكي واليورو.

وعلى الرغم من الإجراءات الصعبة التي كان يفرضها أردوغان على المصرف المركزي، لم تكن تستطيع الليرة التركية أن تنافس المستوى المتدني التاريخي للطلب بعد 2008. كانت القروض بالعملات الأجنبية أرخص، إلا أنه بالنسبة للشركات التي كانت تقبض بالليرة التركية، كان الأمر يمثل لهم مخاطر جمة.

نحو القعر
تحول النصف الثاني من عصر أردوغان إلى طريق مليء بالحفر والمطبات.

اندلعت الحرب الأهلية لدى الجار السوري، وبدأت التأثيرات السياسية مع الدول الأجنبية تترك آثارها على الداخل، وكانت تركيا تقف في الصفوف الأمامية.

في أواخر 2015، أسقطت القوات التركية مقاتلة روسية، متسببة باضطرابات جيو - سياسية ومخاوف بالسوق.
وعلى الرغم من إصلاح العلاقات مع روسيا، إلا أن الأمر لم يكن ليحصل سوى على حساب التحالف القديم مع الولايات المتحدة الذي بدأ بدوره يهتز، مما زاد من قلق المستثمرين.

وفي صيف 2016، نجا أردوغان من انقلاب مزعوم، وأطلق على إثرها حملة تطهير واسعة.

وعند الخريف، شهدت الليرة أول سقوط مدو لها.



ملامح الأزمة
ومع نهاية 2016، بدأت المصارف تستشعر أزمة تلوح في الأفق.

كلما اهتز وضع الليرة، تكون العيون شاخصة نحو المصرف المركزي، من ثم إلى الرئيس التركي الذي كان بدوره يرفض بقوة مقترح رفع المعدلات الفائدة المطلوبة للدفاع عن العملة.

وبعد أن كان أردوغان شاهداً على إطاحة أسلافه بالأزمة المالية في تركيا، أبقى أردوغان على سياسية الشح في مصاريف الدولة، فانخفض مؤشر الدين العام بشكل جذري. لكن تم استبداله، كقوة دفع للنمو، بالديون الخاصة - وهذا تطلب مالاً سهلاً.

ففي كل مرة كان المصرف المركزي يحصل على الضوء الأخضر لرفع معدل الفائدة، عادت النتيجة أسوأ مما كان متوقعاً، ما جعل قيمة الليرة تهوي بشكل مستمر.

وباتت تكلفة التضخم الناتجة عن ضعف العملة تقوض هوامش الربح لدى المؤسسات، التي كانت تتحرك بهامش 20% في الأوضاع الجيدة، ما دعاها إلى السير بخطة "اشتر الآن - ادفع لاحقاً"، نموذج لم تكن تركيا مألوفة عليه سابقاً.

ومع استمرار انخفاض قيمة العملة، باتت الديون تزداد بشكل تدريجي مع عدم إمكانية تلك المؤسسات على سداد ديونها للمتعاملين الأجانب، بعد أن تم شراء المواد الأولية بالدولار أو اليورو. وفي نفس الوقت، بات سعر المنصوص على المنتج أقل من قيمة المنتج نفسه الموضوع على رفوف المتاجر.

وفي 2018، أغلق أكثر من 1000 مصنع ومؤسسة أبوابه، مع كشف الحكومة في مارس (آذار) عن إجراءات للحماية من الإفلاس، إلا أن الأمر لم يساهم في الحد من التدهور.



الأسوأ لم يحصل بعد
وعد أردوغان، في مقابلة مع بلومبرغ خلال مايو (أيار) الماضي، أي قبل شهر من الانتخابات، أنه سيعمد إلى زيادة التحكم بالمصرف المركزي في حال فاز بالسباق الرئاسي، وهذا ما فعله. إلا أن العملة تراجعت إلى مستويات قياسية جديدة في أغسطس (آب) مع اندلاع خلاف جديد مع الولايات المتحدة، مع فرض الأخيرة عقوبات غير مسبوقة على أنقرة.

في النهاية، رضخ أردوغان وأعطى أذنه لزيادة قياسية في معدلات الفائدة للمرة الأولى خلال سنوات حكمه الـ16، الأمر الذي ساهم في كبح تدهور قيمة العملة، إلا أن الآثار الجانبية كانت لا تزال تلقي بظلالها على النظام المصرفي.

إذ كانت الشركات التركية غير المالية، تعاني من ديون أجنبية بقيمة 331 مليار دولار في نهاية أغسطس (آب)، أي ما يقرب من ثلاثة أضعاف أصولها في العملات الأجنبية.

وفي الوقت الحالي، أنشأت الحكومة صندوقاً للضمان الائتماني كي يأخذ بالحسبان بعض المخاطر المؤسسية على الميزانية العمومية. ويشير التقرير إلى ضرورة أن يكون هناك حاجة لمزيد من الخطوات الجذرية، لافتة إلى طلب بعض المستثمرين ببرنامج لإعادة رسملة البنوك، يكون ممولاً من قبل دافعي الضرائب والمساهمين.

ويؤكد تقرير بلومبرغ، أن علاج الخروج من الأزمة التي أوقعها أردوغان ببلاده سيكون مؤلماً. إذ يتوقع العديد من الخبراء أن يتقلص الاقتصاد في العام المقبل.

وفي حين يعكس صندوق النقد الدولي تفاؤلاً حذراً، متوقعاً نمواً بـ0.4%، إلا أن الأمر لن يؤثر بشكل إيجابي في الخروج من حالة الركود في بلد مثل تركيا، حيث يزيد عدد سكانها 3 أضعاف المعدل العام.

أما بالنسبة للشركات التركية، فهي عالقة اليوم في إجراءات أردوغان التي سادت سنوات حكمه. فقد أعدم الدولار المقترضين، وباتت القروض بالليرة التركية باهظة للغاية.